الرسالة 91 من كتاب “رسائلُ إلى بحّارٍ ورسائلُ أخرى” للأديبة التونسية سليمى السرايري إلى الشاعرة والناقدة كوثر بلعابي
صَدِيقَتِي كوثر ،
أَنْتِ تُدْرِكِينَ تَمَامًا أَنَّ اَلْكِتَابَةَ هِيَ اَلْوَجَعُ اَلْحَقِيقِيُّ لِلشَّاعِرِ لِأَنَّهَا فِي نَظَرِهِ قَتْلُ اَلذَّاتِ عَلَى اَلْوَرَقَةِ.
كُلَّ مَرَّةٍ أَلِجُ قَصِيدَتَكَ أَلْمَحُ، هُتَافَ اَلْقُلُوبِ اَلْحَالِمَةِ بِالْحُبِّ وَالْجَمَالِ، أَلْمُحُ اَلْكَلِمَاتِ اَلَّتِي تَبْكِي حِينًا، وَحِينًا تَتَمَاوَجُ تَوَهُّجًا بَدِيعًا فَتَفِيضُ اَلْأَلْوَانُ مِنْ بَوَّابَةِ اَلْخَلَجَانِ.
أَنَا اَلَّتِي تُصِيبُهَا اَلْحَيْرَةُ اَلشَّدِيدَةُ حِينَ أَغُوصُ أَعْمَقَ فِي حِرَفِكِ اَللَّذِيذِ وَبَصْمَتَكِ اَلْخَاصَّةِ جِدًّا بِكَ فَقَطْ. ايقَاعَاتُكِ فَرِيدَةٌ مُقِيمَةٌ فِي شَرَايِينِكِ صَاعِدَةٌ وَمُتَسَلِّقَةٌ سَلَالِمَ هَذِهِ اَلرُّوحِ.
جَمَالٌ غَامِضٌ غَائِمٌ بِنَا فِي كُلِّ الاتِّجَاهَاتِ رَغْمَ بُكَائِيَّةِ اَلْمَوَاقِفِ وَالانْزِيَاحَاتِ اَلْغَرِيبَةِ اَلَّتِي تُسْكِرُنَا بِجَمَالِهَا اَلْفَرِيدِ وَالْمُفَاجِئِ حَدَّ اَلضَّيَاعِ فَلَا نَجِدُ مَسْرَبًا لِلْخُرُوجِ مِنْكِ.
فَالذَّاتُ اَلشَّاعِرَةُ يَا صدِيقَتِي، تَعْشَقُ اَلضَّيَاعَ وَالْفَوْضَى اَلْفَنِّيَّةَ اَلْعَالِيَةَ. فَتَتَفَرَّعُ كُلُّ تِلْكَ اَلْفَوْضَى بِدَوْرِهَا إِلَى أَحْلَامٍ وَأُمْنِيَاتٍ، لِتَطُولَ أَمْنِيَّةً سَمَاوِيَّةً نَاصِعَةَ اَلزُّرْقَةِ.
أَوَ لَيْسَتْ كُلُّ اَلْأَمَانِي تَأْتِي مِنْ اَلسَّمَاءِ حِينَ نَخْتَلِي إِلَى أَنْفَسِنَا وَنَنْتَظِرُهَا فِي غَفْلَةٍ مِنْ اَلزَّمَنِ؟
إِنَّ اَلْأَمَانِي مِثْلُ اَلْعَصَافِيرِ اَلصَّغِيرَةِ، تَخَافُ مِنْ اَلْفَزَّاعَاتِ، فَتَطِيرُ عَالِيًا ثُمَّ تَهْوِي.
يَجِيءُ اَلْحُلْمُ رَافِعًا رَايَتَهُ اَلْوَرْدِيَّةَ مُتَمَسِّكًا بِمَا يَتَرَاقَصُ فِي تِلْكَ اَلذَّاتِ مِنْ أَحَاسِيسَ وَاخْتِلَاجَاتٍ وَكَأَنَّ اَلْحُلْمَ صَارَ كَوْنَا طَرِيًّا وَنَدِيَّا نَلِجُهُ بِلَا إِرَادَةٍ فَنَشْتَهِي لَيْلاً أَطْوَلَ لِيَتَّسِعَ اَلْحُلْمُ وَيَسِيلَ مَرَايَا.
فَفِي بَعْضِ قَصَائِدِكِ يَا صَدِيقَتِي، تَأْتِي اَلنِّهَايَاتُ هَادِئَةً مُسَالِمَةً رَغْمَ مَا يَكْتَنِفُهَا مِنْ غُمُوضٍ شَدِيدِ اَلْقَتَامَةِ أَخَالُهَا لَوْحَةً تَشْكِيلِيَّةً كَثِيرَةَ اَلْخُطُوطِ وَالضَّرَبَاتِ اَلْغَاضِبَةِ وَكَأَنَّ اَلْفُرْشَاةَ تَحَوَّلَتْ إِلَى رَاقِصَةٍ تُحْتَضَرُ، لِأَنِّي أُؤْمِنُ أَنَّ اَلْجَسَدَ لَا يَتَلَوَّى دَائِمًا غَنْجَا وَدَلَالًا وَإِغْرَاءً! وَإِنَّمَا قَدْ يَتَلَوَّى حُزْنًا عَارِيًا يُغَطِّي كَثَافَةَ اَلْوَجَعِ. تَعَلَّمْنَا كَيْفَ نَجْعَلُ اَلنِّقَاطَ وَالْفَوَاصِلَ شِرَاعًا لِلْإِبْحَارِ مِنْ جَدِيدٍ، نَخِيطُ اَلْأُفُقَ بِالسَّمَاءِ وَنَخْلَعُ عَنْ أَجْسَادِنَا أَسْمَالَ اَلْحُزْنِ اَلْبَارِدِ مَهْمَا اتَّسَعَتْ رُقْعَةُ اَلشَّطْرَنْجِ.
لَابُدٌّ لِلْقِلَاعِ مِنْ بِنَاءٍ وَلِلْحُرُوبِ مِنْ هُدْنَةٍ فَالْآهَاتُ تُسْحَبُ مِنْ اَلْأَعْمَاقِ عَنْوَةً كُلَّمَا اشْتَدَّتْ بِنَا مِحْنَةٌ مَا، قَهْرٌ مَا، غُصَّةُ مَا.
وَالصَّفْصَافَةُ اَلَّتِي عَادَتْ مِنْ اَلْمَنْفَى لَابُدَّ أَنْ تُظَلِّلَ اَلْأَطْفَالَ، وَاَلْعَصَافِيرَ، وَاَلزُّهُورَ اَلذَّابِلَةَ، وَاَلْأَيَادِي اَلْمُتْعَبَةَ، وَاَلْخَوَاءَ، وَاَلْفَرَاغَ، وَمَسَاءَاتِ اَلْقَهْوَةِ اَلَّتِي نَشْتَاقُهَا كُلَّمَا تَرَاجَعَ اَلْحُبُّ وَاخْتَنَقَتِ اَلْعِبَارَةُ.
إِذَنْ يَا كَوْثَرُ،
تَعَالَيْ نَرْسُمْ بَابًا وَنَافِذَةً جَدِيدَةً لِنُطِلَّ مِنْهَا عَلَى تِلْكَ اَلْأَحْدَاثِ فَيَعُودَ اَلصَّوْتُ بالصَدَى اَلْبَعِيدِ حَامِلًا فِي ذَبْذَبَاتِهِ رَائِحَةَ اَلْوَرْدَةِ اَلَّتِي تَرَكَتْ تُرْبَتَهَا وَزَقْزَقَةَ القُبَّرَةِ اَلَّتِي هَاجَرَتْ مُنْذُ سَحَبُوا “اَلْأُكْسِيجِين” وَتَلَبَّدَتْ سَمَاءُ اَلْمَدِينَةِ.
هَا أَنِّي أَرَاكِ تَنَامِينَ كَطِفْلَةٍ اَلْآنَ عِنْدَ اَلسَّحَابَةِ اَلْبَيْضَاءِ تَرْشُقِينَنَا بِالْمَطَرِ وَالْكَوْثَرِ اَلصَّبَاحِيِّ اَلْمَشْرِقِ رَغْمَ كُلِّ اَلْأَشْوَاكِ اَلَّتِي زَرَعُوهَا خِصِّيصًا لِكَيْ نَبْكِي.
لَكِنْ يَا صَدِيقَتِي، لَا أَعْتَقِدُ أَنَّ اَلنِّدَاءَ سَيَخْنُقُنَا وَأَنَّ لُغَةَ اَلْحُرُوفِ سَتَتَخَلَّى عَنَّا.
لَنَا مَوْعِدٌ عِنْدَ اَلْمُنْعَطَفِ هُنَاكَ حَيْثُ اَلشَّمْسُ، وَأَعِدُكِ لَنْ يَتَأَخَّرَ اَلرَّبِيعُ وَلَنْ يُصْبِحَ اَلْعُشْبُ فِي هَذَا اَلزَّمَنِ أَكْثَرَ قَتَامَةً وَأَكْثَرَ صَمْتًا.
حَتْمًا سَأَجِدُكِ أَكْثَرَ دِفْئًا وَأَنْتِ تَجُوبِينَ سَمَاءَ اَلْجَمَالِ اَلْفَرِيدِ تُلَوَّنِينَ كُلَّ اَلْمَرَايَا بِالضَّوْءِ ثُمَّ تُوغِلِينَ فِي سِمْفُونِيَّةٍ عَاشِقَةٍ رَغْمَ الرِّيَاحِ.
هَلْ كَانَ ذَلِكَ اَلْهَوَاءُ أَشَدَّ رِقَّةً مِنْ عَاصِفَةٍ قَادِمَةٍ؟
وَهَلْ تَشَبَّعَتِ اَلنَّوَافِذُ مِنْ صَخَبِ اَلْأَصْدَافِ وَهِيَ تَهَبُ أَجْسَادَهَا اَلْبَرَّاقَةَ لِلْمَوْجِ؟؟
لِيَكُنْ لَدَيْكِ بُرْهَةٌ لِتُصَالِحِي اَلْغَمَامَ وَالظِّلَالَ اَلْآتِيَةَ مِنْ آخِرِ أَشْجَارِ اَلزَّيْتُونِ، لَعَلَّ سِلَالَ اَلْحَبِيبِ تَصِلُ مُحَمَّلَةً بِالسُّرُورِ.
هَا أَنْتِ اَلْآنَ، كَجَنَاحٍ أَبْيَضَ، كصَوْتٍ رَقِيقٍ يَتَسَلَّلُ مِنْ بَيْنِ اَلزِّحَامِ، كقَامَةٍ مَمْشُوقَةٍ مِنْ حُرُوفٍ تَرْتَفِعُ فَنَعْلُو مَعَكِ عَلَى وَقْعِ وَشْوَشَةِ اَلْبَاسِقَاتِ، نَعُدُّ جُذُورَنَا اَلْأُولَى هُنَاكَ حَيْثُ اَلْحُبُّ، حَيْثُ اَلْمَسَاءَاتُ اَلْهَادِئَةُ وَمَمْلَكَةٌ جَدِيدَةٌ لِلْقَصَائِدِ اَلَّتِي لَمْ تُوَلَدْ بَعْدُ.
صَدِيقَتُكِ.
