في ذكرى ميلاد الفنان الراحل محمد على الخطيب: بدلاً من ان نذكره نحن في اوقاتنا الصعبة ياتينا هو باحدى آخر مقالاته الفكرية ليُذكِّرنا بالدور الريادي للفنانين و الثقافة
في ظل هذه الأوقات المتعبة و المبهمة المعالم في الأمة و العالم، ننشر هذا المقال الفكري للفنان الراحل المتعدد المواهب، محمد علي الخطيب، و الذي كتبه في اخر سنة قبل رحيله في ايار/مايو 2003، اي قبل وقوع الحرب في تشرين الاول/اكتوبر 2023. ففكره حي يعيش معنا كل احداث الامة و العالم بنشاط ابداعي، و لان الفنان أو الشاعر أو المفكر الحقيقي لا يموت، نرى في هذا المقال للفنان محمد علي الخطيب انه كان في اخر سنة يستشرف الآتي من الايام بعمق صادق و رؤية سليمة. و ما احوجنا لفكر صادق في شهر الصدق و التكافل الاجتماعي و الصوم عن كل ما هو سيء و مضر و مكروه، شهر رمضان المُبارك. و هكذا جاء ميلاد الفنان في توقيت لا افضل منه لنشر هذا المقال عن دور الفنان الريادي وهو احدى مقالاته العديدة التي كتبها (و لم تُنشر من قبل) في آخر سنه قبل ارتقائه الى عالم النور و الحق. فاهلاً برمضان الصدق و اهلاً بصدق رؤية الفنان…
الفنان محمد علي الخطيب
** أَرسل المقال (اسفل) زوجة الفنان، الأديبة ذُكاء الحر، و ابنه د. إياد محمد علي الخطيب، في يوم ميلاد الفنان محمد علي الخطيب الموافق ١١ آذار/مارس.
دور الفنان وثقافته
بقلم: الفنان محمد علي الخطيب
الأعمال الفنية من إنتاج فنانين أفراد، أما الفن فهو جزء من الحياة الاجتماعية، فالفنان إذن مرتبط بالبيئة والناس، والأحداث التي تجري حوله قومياً و عالمياً.. و في كل الظروف يملك الفنان القدرة على خلق مناخه وقت يشاء، وامتلاك حريته تحت اي ضغط أو قيد.. ذلك أنه في مدى حركة الزمن فترات تنشأ فيها دورة حوار عنيف في الحياة، وفي هذه الفترات تتجلى قدرة المواهب المبدعة على تجديد الحياة وتطويرها.. فإذا خافت أو عجزت انتهى الحوار الى فوضى فتخلف…
و ذاكرة الفنان هي الذاكرة التي لا تنسى، تجمع التجارب و الأحداث في نشاط يبدع المواقف الكبيرة، و يقرر أن الثقافة هي حركة التغيير والكشف و هي المنوطة بربط الماضي والحاضر و المستقبل بالخيال المجدّد، والفنان المفكر مسؤول، لأنه يملك بتفكيره وسيلة إتّقاء الخطأ وقدرة التوجيه نحو المسار الصحيح.
واذا رأيتم في الأمة مثقفين و فنانين، لا يدفعهم الحدث الكبير الى الإبتداع و النشاط الذهني، فاعلموا ان هذه الامة منكوبة بمثقفيها وفنانيها، لان الفنان لا يقابل الحدث الكبير الذي يعاصره بموهبة باردة مشلولة، اذ عليه وبدافع نشاط الموهبة والمعاناة ان يمتص من الحدث غذاء لعمل فني عظيم، فمثل هذا العمل يثير طاقة التغيير عند الناس، و يحفز عقلهم، و يقرر بعض أمور المستقبل..
ان الفن مظهر من مظاهر العقل الناضج و الإحساس الصادق و المُرهف، والذين فصلوا بين الفن والفكر حرموا الفن دوره الطليعي، و فعله في التجربة التي تؤكد علاقة الفنان ببيئته و أحداثها، و تُعطي عقله دور التمييز بين الحسن و القبيح. ذلك أننا لا نملك حقائق الأمور بمظهرها و مضمونها بدون العقل، كما أننا لا ندرك بدونه مدى استجابتنا لها أو رفضنا إياها…
لقد حُرِمَ الفن براعة العقل عندما دفعته فوضى النظريات إلى رفض التجربة الذاتية، ورفض العلاقة بالبيئة و لعل ما وصل إليه الفن عندنا من الاهمال و اللامبالاة بالاحداث الجسام، والآلام التي تُمزق الحياة، كان نتيجة لهروب الفنان من زمن التجريب ومعاناته، وبذا تحوّل إلى آلة تنتج بصورة متشابهة، وتقليد جاف، فانتفى أن يكون فناناً و مفكراً مبدعاً مهمته التغيير و التطور…
و لنتجنّب مثل هذا الخطر على الفنانين أن يقوَّموا التجارب كل التجارب في الحياة الاجتماعية، و ينقلوها إلى الناس بصورتها العميقة، ودلالتها البعيدة، فالتفكير الصحيح فن صعب على الكثيرين، ولذلك تستطيع أجهزة الاعلام أن تغرس سيئاتها في أذهان الناس، وان تشوَّش تفكيرهم، وتمحو من ذاكرتهم صفاء انتمائهم و تحرمهم النظر الى المستقبل بحماس المتعطش إلى الأفضل و الأنقى..
ان عقولاً كثيرة ليس لديها القدرة على التفكير، بل هي عاجزة عنه.. والخطر في ان تصل هذه العقول بدفع من النيّات الخبيثة إلى مراكز المسؤولية في الفكر و الثقافة و التوجيه… فتقع الكارثة، و تحدث الاخطاء الكبيرة، وتتراجع قيم الحضارة، و يُبتذل الفن، وتتهلهل الثقافة، وفي استمرار هذا الخطر لا تستفيد الأمة من التجارب و التضحيات، و تمرّ فيها الأحداث العاتية فلا تترك أثراً سوى الخراب، ويصير جهد الناس ان ينسوا، ويصير النسيان طبيعة فيهم فتتكرر المآسي و يتأكد الانحطاط.
وفي ما تقدّم نضع الفنان في مكانه الصحيح، فإذا كان الفنان انساناً متفوقاً، فهو في طبيعة هذا التفوق، الأقدر على تحويل ما يتناوله في فنه إلى جمال ليُثقِف و يُطوَّر و يُمتِع.. و لم يكن الموضوع يوماً عند الفنانين الموهوبين أصحاب الذكاء الخلّاق، هدفاً يسعون إليه ويُسخِّرون الفن لشرحه و توضيحه، بل كان الموضوع لديهم حافزاً لانتاج عمل فني جمالي خالد يجعل الاشعاع الكامن في الحدث مستمراً في ذاكرة الناس و خيالهم…
واذا كان الفن كفاحاً من أجل خلق انسان أوفر حكمة و سعادة، فان كل مرحلة من مراحل تقدّم الانسان تعني تقدّماً في فن التفكير و ابداع الفنانين الذين يهيئون دائماً غذاءً جديداً للبشرية… وهذا التقدم قد تحاول اخماده عوائق مصدرها السلطة أو التخلّف أو الطغيان والاستبداد. ومهما بلغت شدّة العوائق فعلى الفنان مهمتان، مهمة الفكر و مهمة الفن مع الاستمرار في الانتاج.
لوحة من أعمال الفنان محمد علي الخطيب