رائعة جميل ملاعب
حين تكون اليوم مع قامة تشكيلية عظيمة، لا بد لك أن تتساءل عن مقدار عظمتها، أثرا في نفوس الأجيال الفنية، وكذلك عن مقدار نفاذها في الزمن، صوتا ونورا، كما أعمال النحاتين، من الفراعنة القدماء، في بناء الأهرامات الشامخة.
إعادة الوقوف على رائعة جميل ملاعب: “قريبا من الوطن”، تجعلنا نتعرف على فن خالد، أسس لل”مدرسة الجميلية”، التي حملت إسم هذا العلم، منذ أكثر من نصف قرن.
” جميل ملاعب. قريبا من الوطن. LEBANON.79-1978″.
تصدر هذا الأثر النفيس، رسما للفنان التشكيلي جميل ملاعب، بريشة الفنان البرازيلي من أصل لبناني، هو سامي مطر. وأما التقديم فهو للفنان التشكيل القدير عمران القيسي، حيث يقول:
“ملاعب الذي بدا في مرحلة أولى مندهشا بالطبيعة والشخص، حاول بوعي مباشر أن يطرح معادلة بحجم طموحاته اليومية، وذلك حين أرجع المعادلة اللونية القائمة في الطبيعة إلى خاصية الإتحاد( الحاد) ما بين الظل والضوء. فكانت لوحاته الأولى مشحونة بتوتر غريب للغاية، حيث تسقط التفاصيل على هامش الموضوع الكلي، وتجيء العناصر منعدمة لصالح العنصر الأكبر الذي هو المساحة الطبيعية… إنه بكلمة أخرى بدأ يرسم الكل في صورة الكل، والعام في عين العام. وحتى اللون عنده خلال مراحله الأولى كان خامة أساسية تحفل بما عندها من ضوء ذاتي فحسب، دون أن تحاول ترويض عناصرها الداخلية لصالح المنظور الذي هو مشحون بقدر هائل من العناصر.”

وراء هذا الكتاب حقا، أيام عصيبة. كان جميل ملاعب، إبن بجدتها. عاشها بحذافيرها. وأوغلت فيه، وأوغل فيها، دحما دحما. حتى بدا له الجحيم الذي كان يترصد قيعانه في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، حين كان ولا يزال يعصف بوطنه لبنان.
ولا غرو، ف”المدرسة الجميلية”، عاشت قرابة ثلاثة عقود، في قيعان نفسه، قبل أن تتجلى أعماله، وتنبثق، كما من فوهات البراكين. والتي تملأ حممها حفافي النفس البيضاء.
هذة اللوحات التي تضمها رائعته: ” قريبا من الوطن” ليست إلا تجسيدا لهذة الحمم التي أستولدتها المدينة. وإستولدها الوطن، فتجلت في مثل هذة الروائع الفنية الأخاذة، بالأبيض والأسود. كأن الأبيض هو النور. وكأن الأسود هو الصوت. والعكس صحيح.
أتى جميل ملاعب، بالفن من أصوله الضاربة في قاع النفس، وبسطه لوحات لوحات كما، الطبيعة حين تنشر ذاتها، هضبات ووهدات ووديان ومنبسطات وحمم ثائرة تهجم هي أيضا، كما تهاجم الأحداث وجه الوطن، ثم تغور في وجه المدينة، وفي نفس الفنان التشكيلي الرائع جميل. مع ما تقذفه المدينة والحضارة والعصر من بواطن الأشياء.

“قريبا من الوطن”، متشائما، متشحا بالسواد وبالحمم الخارجة من القيعان، هو غيره متفائلا، كما أمة تتحرك. كما غابة تنطلق. كما صقر، حط في الأعالي، وصار يرسم خارطة الجهات بعينيه الحادتين وبقلبه البصير، الممتلئ بالحب.
جميل ملاعب هو هذا الصقر الذي عرفتها الأعالي، فأنبتت ريشه هونا هونا، حتى يهز القلوب، حين ينفض رياشه أو منكبيه. فيهز العالم حوله، وتهتز دنيا الغرور بالزمن السائل بنا إلى القيعان.
هناك صلة. بل هناك أوصال، بل هناك صلات: بين يديه وفحم البراكين وقيعان نفسه، وجمر يساقط من عينيه، ينير الدجى في ليل المدينة وفي ليل الورق النائم في نفسه، حتى يستيقظ الصباحات، على الفجائع، أو على النهارات التي تجري بالضوء والصوت، من الأعلى إلى الأسفل، ومن الأسفل إلى الأعلى، وكأننا في طاحونة القدر وتحت رحى الزمان..
بين ليل المدينة وليل الورق، في روائع “المدرسة الجميلية”، حزن عظيم وألم شاسع مثل بدن وطن مثقب بالرصاص. ومآس وفجائع إنسانية. تهدر من القيعان، حين تنفجر بها البراكين، وتنشرها في عموم البلاد. غير أن صاحب الرؤى التاريخية الكاشفة، الذي أراد من خلال أعماله التشكيلية، ألا يغير من قوانين الحياة، ظل رغم الكوابيس الثقيلة، على ما تضج به نفسه من نور وصوت: نور فرحه الكاشف للنهايات، وصوت الزمن الملازم للأيدي المعطاءة، التي ما خابت طوال مسيرتها المعطاءة في الحياة.

جميل ملاعب في رائعته التاريخية: “قريبا من الوطن” يقرأ أنفاس البراكين الثائرة. وأمواج الحمم الهادرة، على قواعد ثابتة: الأرض والتاريخ والحرية. وينتشل اليائسين، من تحت الركام. فما أن ينظر فيه، حتى تتفتح الجروح وردا و ياسمين. حتى تتفتح زهرة اللوتس بين يديه، وعلى ورقه. ومن يقرؤه، أو يسمعه، أو ينظر إلى أعماله، يراه متوحدا حول معنى إنتصار الإنسان على الموت. على الفناء. لأن جذور “المدرسة الجميلية”، إنما هي ضاربة في المستقبل، بقدر ما هي ضاربة في التاريخ.
رائعة جميل ملاعب: “قريبا من الوطن” لا تقدر بثمن. إنها متحف الجريمة حقا، كما أراها بعيني. حين قضي الأمر، وإنزلق لبنان الجميل إلى الهاوية. فكان أن تقمص في نحو من ثلاثين مشهدا. في نحو من ثلاثين لوحة. أصر الفنان التشكيلي الخارق، أن يتجاوز المحنة السوداء فيرقى بالأسود والأبيض، بالنور والصوت، إلى المستويات الرفيعة، التي تخلد البرهة القاسية و القاتلة، لا فرق، كي لا ننسى.

ثلاثون لوحة تشكيلية، بالأسود والأبيض، جعلها كلها في سردية واحدة. تروي حكاية الشعب الناهض من الحفر. المتعفر بالركام، حتى صار شعب الفنان المبدع على يديه، كما في نبوأته: شعب الركاميات.
لوحات خارقة للبصر وللضمائر، هي كما توالت بين دفتي رائعته، ” قريبا من الوطن”: صمود- قاع المدينة- العلاقة الإنسانية- هجرة- الصدام- الزيارة- عدلون- بعد الغارة- المجد لكم- بيروت الأزل بين الجد والهزل- موتى على لائحة الإنتظار – أزمة مدينة- أزمة (مدينة-2) – طيران فوق عش النار – الركام البشري- إيمان- تهجير- بابل العصر- حاجز للعصافير- الولادة- من يحمل من؟ الأوزاعي- الإرهاب رقم واحد- يسوع المدن الدموية- قتل على الهوية- التصعيد-الطاقة- المسيرة- المسيرة أيضا.

هذة الأعمال الفنية بالأبيض والأسود، فاقت المعقول. فهي تجسد حقا مسرح اللامعقول، حين يكون معقولا، على يد جميل ملاعب، الذي إشتهر بألوانه الزاهية.
تخلى هاهنا جميل ملاعب، عما عرفناه في “مدرسته الجميلية” التي تقوم على المنمنمات البصرية الزاهية والأخاذة، ليحملنا إلى متحف الأسود والأبيض، متحف نفسه. الذي صنع لها متحفا بعينيه على مرتفعات بلدته الجميلة بيصور، في أعالي قضاء عاليه، من وطنه لبنان، مقابل أرز الشوف، متغلبا على جميع من إرتادوا هذا الفن، وجعلوه ديدنهم في أعمالهم إلى حد الإشتهار به.
جميل ملاعب حقا، فيلسوف الأسود والأبيض. فيلسوف النور والصوت. ورائعته التي بين يدينا، كلما مضى عليها الزمن، جددت قالتها: إن الرقي الفني، يخبر عن نفسه بنفسه، بأي حرف. بأي لون. بأي خط. بأية نقطة. وبأي نفس. وبأي جمر. بحيث يبلغ الإعجاز به، حين يرقى سلم الأسود والأبيض، إلى الهرم الفني الذي يجسد النور والصوت.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
