كتبت الشاعرة والناقدة دارين حوماني في موقع العربية ” ضفة ثالثة ” قراءة في كتاب الشاعرة الراحلة مها بيرقدار الخال ” حكايا العراء المرعب ” الذي صدر مؤخرا عن دار ” فواصل ” في بيروت :
إن من يقطع آخر خيوطه في هذا العالم، لا يهمّه أي إغراء أو ملذات في هذا الكون.. إن هذا الموقف يبدو متقشفًا نوعًا ما، لكنه غير كافٍ بالنسبة إليّ. لم أعد متعلقة بشيء وما من شيء يربطني بهذه الحياة، أو هذه الصحوة اللعينة التي تُدعى حياة أو موتًا!”- يأتي هذا النص تحت عنوان “القطيعة البطيئة” الذي كان من بين آخر ما كتبته الفنانة التشكيلية والشاعرة مها بيرقدار الخال ضمن كتابها- سيرتها الذاتية “حكايا العراء المرعب” (دار فواصل للنشر ودار مجلة شعر، 2024) قبل أن تقطع آخر خيوطها مع هذا العالم وترحل يوم 22 شباط/ فبراير 2025 بعد صراع مع المرض، وربما مع الحياة نفسها… فالحياة هي نفسها “العراء المرعب”، كما عبّر ابنها الفنان يوسف الخال في مقدمته للكتاب. وفي رحيلها لا يمكن الحديث عنها بدون العودة إلى هذه السيرة الملفوفة بالصدق.
ترحل مها بيرقدار الخال عن 78 عامًا وقد تركت بصمتها في أنفاس بيروت منذ أن وطئت قدمها دار النهار للنشر في أواخر ستينيات القرن الماضي قادمة من وطنها سورية، حاملة معها مجموعتها الشعرية الأولى “عشبة الملح” لتعرضها على مسؤول النشر في الدار، الشاعر يوسف الخال، ومع عدم الموافقة على النشر إلا أنه سيرسل لها رسالة بعد ذلك، يقول لها فيها “لقد أعددتُ لك بيتًا صغيرًا عند البحر… لا تتصوري كم أنا غريب ووحيد! فتعالي حين ينتصف تموز، وإلا فغيبي إلى الأبد!”. ومها حين كتبت سيرتها الذاتية كانت توثّق بدون أن تقصد للسلالة الفكرية والنفسية للشاعر يوسف الخال، مؤسّس مجلة “شعر” التي تحولت إلى تيار فكري، والمحرّك الأول للحداثة الشعرية، قبل أن ينضمّ إليه أدونيس وخليل حاوي ونذير العظمة، ثم محمد الماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة وآخرون. وهي ليست سيرة ذاتية لمها بيرقدار فحسب، بل إنها ترصف البناء الزمني لتلك الحقبة البيروتية بحداثتها وحروبها وتعاستها، وهي بذلك تذكّرنا باليوميات التي كتبتها آنا غريغوريفنا زوجة دوستويفسكي أو يوميات صوفيا تولستايا، وأعمال هذه الكاتبات تكشف عمّا يركن تحت أقنعة أزواجهن، بجمالياتهم وتوتراتهم، كما تشتغل كعدسة تقرّب ما لم يكن ممكنًا تقريبه بدونها.

في رحيلها لا يمكن الحديث عنها بدون العودة إلى هذه السيرة الملفوفة بالصدق
الصدق هو أهم ما يميّز مها بيرقدار الخال نفسها. وهو الصدق الذي تغامر فيه وهي تحكي سيرتها تحت شعور “انتظار الموت”، مستعرضة تفاصيل شفافة وعميقة من حياتها، وهي إذ تنطلق بالحديث عن حدسها الذي كان يقودها أحيانًا إلى الخوف، تباشر فورًا بالحديث عن الشاعر يوسف الخال تحت عنوان “بين الحرية والهيمنة”، وبعفوية بالغة تحكي عن الأنا المضخّمة فيه وعن قسوته، وفي الوقت نفسه عن معاناته ثقافيًا واجتماعيًا وماديًا وعائليًا التي كانت الأسباب وراء وصوله لمرحلة “لم أعد أحب أحدًا”، وأن أول ديوان شعر له كان اسمه “الحرية”؛ تُعلّق بينها وبين نفسها عندما أخبرها بذلك: “كم كرهتُ الحرية لأنها لم تكن كذلك، بل كانت هيمنة على الآخرين وغطرسة وسوء تفاهم دائم حتى مع أقرب الناس إليه”.
لا تسير سيرة مها بيرقدار الخال كرونولوجيًا، فهي إذ تبدأ بالحديث عن يوسف الخال، تعود إلى دراستها للفن في دمشق وتخرّجها من معهد الفنان أدهم إسماعيل، وصدمة موت أبيها ثم جدتها، ثم مراسلاتها مع يوسف الخال وزواجها في قبرص؛ ثم تعود إلى الشاب الذي أحبّته قبل زواجها وتبيّن أنه كان متزوجًا وعانت كثيرًا بسبب انفصالها عنه، تقول له “إن فشلتُ في حياتي فهذا بسببك”، يجيبها “أنتِ خلقتِ كي تنجحي، وستنجحين في كل شيء”، وتكتب “أحببته على امتداد عمري، وحتى اللحظة كلما تقدّم أحد ليتقرّب مني كنتُ أقع بالمقارنة بينهما”؛ ثم تعود إلى عمل والدها الذي كان يعمل في الأمن ورفضه إطلاق النار على متظاهرين، ما وضعه وعائلته تحت الإقامة الجبرية في البيت دون خروج لأشهر “أصعب المشاعر عند الإنسان هي عدم التقدير والنكران لكل ما قمت به”. ثم تطلّ على مأساة الحرب الأهلية اللبنانية التي أجبرتهم على مغادرة بيروت والانتقال إلى منطقة غزير (30 كم شمال بيروت) واستقروا فيها.
“كتبت مها الخال سيرتها هذه خلال العام 2024 بإلهام داخلي عميق، فقد جاء كوثيقة صادقة وشفافة وغنية عن حياتها وعن الشاعر يوسف الخال قبل رحيلها”
وعلى الرغم من أن مها بيرقدار الخال فازت بملكة جمال دمشق عام 1967 إلا أنها لم تأتِ على ذلك. وتحدثت عن عملها كمقدمة لبرنامج “الليل والشعر والموسيقى” في إذاعة دمشق ما وسّع من آفاقها الشعرية، حتى أنهت مجموعتها الشعرية الأولى عام 1969، وفي دار النهار سيقول لها يوسف الخال “بس دار النهار ما بينشر إلا للمشهورين، إنت لشو بتكتبي شعر؟ ليش ما بتروحي وبتتزوجي؟ إذا طبعتِ المجموعة بدار النهار رح تكلفك غالي”، وخرجت كئيبة من مكتب يوسف الخال، وكان على مها أن تنتظر حتى عام 1984 حتى تستطيع طباعة هذه المجموعة الشعرية. عرض عليها الخال أن تدير “غاليري وان” الذي كان يمتلكه، وكان عليها أن تواجه رفض أمها بالعمل في بيروت، فقد أصرّت على أن تعيش وتعمل في بيروت، وسيذهب يوسف الخال إلى أمها، لكن هذه العائلة “المسلمة” سترفض زواج ابنتهم من “مسيحي” كما أنه خمسيني ومطلق ولديه ولدان وهي عشرينية؛ ستجيب مها أمها: “أنا قررت وهيدي حياتي وأنا حرة فيها”، وستبكي طوال الطريق من دمشق لبيروت. ولما قال يوسف الخال لها “أنا ليس عندي مانع أن أعتنق الإسلام” رفضت وأجابته “إذا غيّرت دينك لن أتزوج”. وفي قبرص عند عقد الزواج المدني، تفكر “هل يستحق الزواج من رجل كيوسف كل هذا العناء؟ ومن غير يوسف؟ كل ما أعرفه أني لست سعيدة كما كنتُ أتوقع، فكل شيء مجهول بالنسبة إليّ”. وفي حفل زفافها البسيط في منزلهما سيأتي شعراء لبنان، يقول لها أنسي الحاج: “هل أنت ملاك من السماء؟”، أما فؤاد رفقة فقد انتعشت روحها عندما عرفت أنه سوري “كأني رأيتُ أسرتي”.
“يوم تزوجت من شاعر”…
“لا أنكر طيبة قلب يوسف، لكن في أوقات ينقلب فيها عمق الحكمة عنده إلى طبع أقلّ ما يُقال عنه أنه طبع غريب، شرس وقاس، حتى أني بالكاد أفهمه”، وكانت تعزو تقلّب مزاجه لكونه شاعرًا ويحمل مسؤوليات كثيرة، فتسامحه على الفور. لكن حزنها سيطفو على السطح وهي تسرد كيف همّ بالخروج من البيت إثر عقد قرانهم وعودتهم من قبرص، فسألته إلى أين يذهب أجابها “عندنا لقاء الـ104… لا تتعبي رأسك الجميل فيما لا يعنيك… هذا شأن خاص، يخصني ولا شأن لك فيه”. ولما تسأله كيف يقول ذلك و”ماذا لو عكسنا الآية”، يجيبها بقناعة ذكورية قاسية “المرأة غير الرجل… المرأة عليها أن تلزم حدود مقدرتها الجسدية والمعنوية”، ترد مها “أنا متفاجئة مما تقول! لا أحب نظرتك تجاه المرأة. الرجل سيكون رجلًا عندما يعامل المرأة معاملة الندّ للندّ وعلى أنها نصفه الآخر وأنها مخلوق يحق لها ما يحق للرجل”، فما كان منه إلا أن أجابها: “لا تملأي رأسك بهذه السخافات التي تقرأينها في الصحف والمجلات أو على شاشات التلفزة”، ولما تسأله متى يعود سيجيب: “أنا أعرف متى أذهب لكني لا أعرف متى أعود”. إنها “ساعة التخلي”، كما تصفها، يوم تزوجت من شاعر.
حين كتبت سيرتها الذاتية كانت مها توثّق، من دون أن تقصد، للسلالة الفكرية والنفسية للشاعر يوسف الخال
هذا التفرّد بالرأي يقابله حب دفين إذ يسألها الخال عن رغبتها بإنجاب الأطفال، وفيما هي تبدي خوفها من الحديث معه عن ذلك كونه كان متزوجًا ولديه ولدان، يقول لها “ستكون أنانية مني ألا أفكر في هذا الأمر، فأنا حققت أبوّتي وبالوقت عينه عليك أن تفكري بأمومتك”. وستعتنق مها الخال المسيحية عن إيمان، وتسأله لماذا لا يذهب للكنيسة، يقول لها “الإيمان الداخلي أعظم من الممارسة”، تقول مها عن ذلك “هو شاعر مجنون! ومتمرد حتى في صمته لأنه حتى يريد إلهًا على ذوقه!”.
تضع مها بيرقدار الخال توقيعها على جزء من سيرة بيروت في الحرب وانقسامها إلى “بيروت الشرقية” و”بيروت الغربية”، وقد أفردت لها فصولًا متعددة؛ تسأل يوسف الخال عن هذه الحرب يقول لها “لن تفهمي ولا أحد يفهم… لبنان جسمه لبّيس. نصف البلد غرباء، والنصف الآخر طائفي… ضيعانك يا لبنان وضيعان اللي راحوا”. وتتوقف عند رحلة الهروب إلى منطقة غزير تحت القصف، ثم رحلات المرور بين غزير وبيروت عند الحاجة، ومرورًا بحواجز المسلحين يسألون عن الهوية لمعرفة الطائفة؛ تكتب الخال “إذا كنتَ تعيش في لبنان فلن تكفيك روح واحدة، بل عليك أن تكون مثل الهرة، يُقال إنها بسبعة أرواح، لكني أقول إن اللبناني يجب أن يمتلك على الأقل سبعين روحًا! فمنذ أن تفتح عينيك حتى تغمضهما، يبدأ صراعك، وتبدأ الانزعاجات تتوالى عليك. إنها ليست انزعاجات بل هي إعدامات لكل ما تبقّى لديك من صبر، رفض، أمل، أو حلم، كل هذه الأمور انتفت من حياتك، فالعمر الجميل انتهى تحت أحذية المتحاربين…”. وتضيف في مكان آخر: “كثُرت الانهيارات النفسية وكثُرت السرقات والتصفيات الجسدية وعمّت الفوضى في كل مكان، وصار العيش في الوطن مستحيلًا”. وستسرد مها قصة ذهابها إلى بيروت بسيارة بيك أب مع أحد المقاتلين لجلب كتب من البيت ليوسف الخال، حيث كان مرور النساء أسهل من مرور الرجال عند “خط التماس”، وتصيبها الصدمة إذ ستجد البيت فارغًا من الأثاث والثياب، والمكتبة مسروقة، وبعض الكتب الكبيرة محترقة في “الشيمينيه”، لكن أرشيف يوسف كان متروكًا في إحدى الخزائن وكذلك ألبومات الصور، وهذا ما أسعدها، وستعرف أن البيت كان مخفرًا لتجمّع الشباب.
“خلال آخر أيامه، سيتم تقليد يوسف الخال وسام الأرز “لم يبدُ على يوسف أي انفعال، فقد كانت نظرته فارغة من الفراغ، وهذا ما أقلقني بحدّ ذاته!… نظراته تائهة في اللامكان واللازمان””
سيتم توكيل يوسف الخال بترجمة الكتاب المقدس، وهو ما سيُفرحه ويملأ وقته بعد تركه بيروت، وفي أوقات حزنها ستتذكر الرجل الذي أحبّته؛ “صرتُ أصدّق من يموت عشقًا، فأنا صرتُ أحسّ بأني سأموت فقدًا، فكما أفتقد أبي وهو تحت التراب، بدأت أفتقد أميري الحبيب”. وسيتزوج أخوها طريف من لبنانية، وسيعيش في لبنان مع عائلته لكن أولاده لن يحصلوا على الجنسية اللبنانية، “الأم اللبنانية لا تعطي أولادها الجنسية”، وستنتقل أمها وإخوتها للعيش في بيروت.
تشرّح الخال تحولاتها النفسية “اللعنة على خياراتي مجملة… لقد تعبت… تعبت حتى من تعبي… حتى الحب بين رجل وامرأة ما عاد يعنيني بشيء، ما خلق هوة بيني وبين يوسف”؛ يسألها يوسف “لماذا لم تعودي تحبينني؟”، تتهرّب من الإجابة، وتكتب “كانت ردود فعله تؤذيني في الصميم، من أصغر ملاحظة حتى أكبر نقد، ولم يكن يتورّع عن نقده الجارح حتى أمام الأصدقاء والمقرّبين أو البعيدين، ما كان يجرحني ويُحرجني في آن… لا أنكر بأني أحببت الخال واحترمته، وهو بالنسبة لي قيمة ثقافية وفنية عملاقة، لكن قسوة مواقفه من الحياة والأشخاص لطالما وقفت عائقًا بيننا، حتى بدأت عاطفتي بالخمود شيئًا فشيئًا… إنها المعاناة التي لبستني ولبستها على مرّ تلك السنوات. إنها الغربة عن كل شيء، إنه الحنين، إنه الحرمان، إنه تفهّم الآخر على حساب أعصابي”.
الشاعرة مها الخال مع ولديها النجمين : ورد ويوسف
ورغم هذا الاهتزاز في الحب والعلاقة وقرارها بالانفصال، إلا أنها ستحمل بابنها، وستقرر إجهاضه، “لم أعد أتحمل يوسف فكيف أنجب له مزيدًا من الأولاد”، وفي الوقت الذي كان مقررًا إجراء عملية الإجهاض داخل عيادة الطبيب ستقرر الاحتفاظ بالجنين؛ تقول عن ردّ فعل يوسف الخال عندما عرف أنها عدلت عن رأيها بالإجهاض “نظر إليّ نظرة بتقطع الظهر، ملؤها شتى الأحاسيس… ودمعت عيناه لأول مرة!”. وسترسم له لوحة بورتريه وتعلّقها في مكتبه الجديد وكانت مفاجأة له عند عودته من إحدى أسفاره، “أحببتها فعلًا، وباستمرار”، يقول عن اللوحة.
ومن المحطات التي تتوقف عندها مها الخال إصابتها برأسها ووجهها خلال المحاولة الأولى لاغتيال الرئيس الراحل بشير الجميّل حيت نجا وقُتلت ابنته، وكانت مها في طريقها إلى بيروت من غزير، وكيف تم تقطيب وجهها وأبقى الأطباء على الشظايا في رأسها خوفًا من أن تتسبّب عملية نزعهم بأي شلل لها أو فقدانها البصر، ما تسبّب لها بآلام لا تُحتمل حتى تمنت الموت، “أنا كلّي يؤلمني حتى روحي تؤلمني!!… منذ ذلك الوقت حتى اللحظة التي أكتب فيها لم أعد أخاف من الموت”.
كانت الخال حاضرة في الحيّز الثقافي في بيروت من خلال أعمالها، فكتبت ورسمت في مجلة “فيروز” التي كانت تصدر عن دار الصياد، كما كانت في الوقت نفسه صاحبة برنامج شعري في الإذاعة اللبنانية وبرنامج “تقول الأسطورة” إلى أن مرض يوسف وتوقفت عن العمل بعد 6 سنوات في الإذاعة. وستفرد لمعاناة يوسف الخال مع المرض عددًا من الفصول: “كنتُ أسمع أنين يوسف وصراخه الواصل إلى خارج الغرفة، وأتلوى ألمًا عليه، لم يعد لديّ شيء أعطيه إياه إلا أن أحس بآلامه”. سيعرض الرئيس الراحل رفيق الحريري معالجته في باريس، ورغم ذلك ستتدهور صحة يوسف بعد العلاج في باريس والعودة إلى بيروت. وخلال آخر أيامه، سيتم تقليده وسام الأرز “لم يبدُ على يوسف أي انفعال، فقد كانت نظرته فارغة من الفراغ، وهذا ما أقلقني بحدّ ذاته!… نظراته تائهة في اللامكان واللازمان”.
“كان زواجي من يوسف غير متكافئ، بكل المقاييس! فلا هو أسعدني، وأنا فشلتُ في إسعاده”، كلمات يتدحرج الحزن منها، تفكر فيها مها في حضرة موت يوسف الخال، وتستذكر كيف قال لها فيما تحاول رفعه في السرير ليأكل طعامه “انت لازم تنتحري… لأنك منيحة كتير واللي متلك ما بيتكرر”؛ وترتجف مها “مثل ورقة جافة” عندما أنزلوا التابوت في القبر. كان ذلك استكمالًا لرحلة العراء، بلا أب ولا أم ولا زوج.
تكتب الخال عن سيرتها: “هذا المخزون الذي قد لا يعني لمطلق أي إنسان الاطّلاع عليه بقدر ما يعنيني شخصيًا، هو الراحة والتركيز على حفظ بقايا من التوازن حتى أستطيع العبور فوق ذلك الجبل الرفيع، حتى أصل إلى ينبوع النور المؤكد الذي يدعونه الموت!”
عملت مها بيرقدار الخال كثيرًا لإعالة نفسها وورد وابنها “وسوف” بعد وفاة يوسف الخال، فعادت إلى الإذاعة اللبنانية وترأست مجلة “إيوان” التي تُعنى بالفن، إذ لم يعوّضوا عليها بتعب الخال على ما أنجزه من ترجمة الكتاب المقدس إلا بما يكفي مصروف شهرين. وقررت ألا تتزوج بعد يوسف، وكتبت الشعر لرجل وهمي من صنع الخيال، ورفضت أن تلتقي بالرجل “الأمير” الذي أحبّته قبل زواجها. وتفرّغت للرسم أيضًا، وأقامت العديد من المعارض في لبنان والخارج. وأصدرت بعد “عشبة الملح” ثلاثة دواوين هي “رحيل العناصر” و”الصمت” و”دواة الروح”. كما كتبت سيناريو مسلسل “نقطة حب” (2010) و”الطائر المكسور” (2008) وشارك ولداها ورد ويوسف في التمثيل. وكتبت العديد من أغاني الأطفال منها أغنية “أكواريوم” التي غنّتها ماجدة الرومي.
ثمة محطات كثيرة أخرى تأتي مها بيرقدار الخال على ذكرها، منها عن زواج أخيها أسامة من إيطالية ومرضه ووفاته وحيدًا بعد طلاقه، وأختها سوزان التي أحبّها رشدي أباظة خلال عملها في مصر وأحبّته، وعن أخيها طريف الذي عمل في جريدة “اللواء”، وعن وسام الأرز الذي تقلّدته عام 2004 من رئيس الجمهورية اللبناني وقتها إميل لحود، مع شعورها بالحزن لما سمعته على لسان “مثقفين”: “كُرّمت مها الخال لأنها سورية، فلماذا يكرّمونها ويتركون أبناء البلد”، فترد “معارضي الفردية بلغت 14 معرضًا، و32 مشاركة في معارض جماعية، وأكثر من 75 مشاركة في أمسيات شعرية في لبنان والعالم العربي”. كما كتبت عن مرضها بالسرطان وشفائها منه بعد انتظار مؤلم للموت، وعن انفجار مرفأ بيروت. وعن ورد ودراستها، وإقناعها من قبل الممثل فادي إبراهيم بدخول ورد التمثيل، وعن تعلّم يوسف الموسيقى وانطلاقته في التمثيل مع الرحابنة في مسرحية “روميو وجولييت”، وزواجه من نيكول سابا، والحفيدة “نيكول”. محطات منها المحزن ومنها المفرح، وعن تلك المفرحة تقول في خاتمة سيرتها: “أظن أنه لولا تلك المحطات الصغيرة المضيئة لما تحملتُ قسوة الظروف التي مرّت، وما تزال تمرّ، لأننا كلنا محاصرون بالبشاعة والموت والانتظار. لقد كبرنا بالبشاعة، ولسوف نموت بها، فهل أقسى من البشاعة إلا الوعي والتنبّه إليها؟”.
تُنهي مها بيرقدار الخال سيرتها بالحديث عن غزة التي تكتب يومياتها بالإبادة فيما تكتب هي سيرتها، “كل فرد في غزة بطل أسطوري بالشجاعة والوطنية والعطاء اللامحدود، فيما ذلك الذي قال عن الفلسطينيين إنهم حيوانات فهو ليس إلا ’”كومة قمامة مصيرها مزبلة التاريخ’، و’من فمك أدينك يا إسرائيل’”.
كتبت مها الخال سيرتها هذه خلال عام 2024 بإلهام داخلي عميق، فقد جاء كوثيقة صادقة وشفافة وغنية عن حياتها وعن الشاعر يوسف الخال قبل رحيلها. وكانت تكتب وهي في حالة نفسية متردّية كما تعبّر لكي تُفرغ هذا المخزون المتراكم في الأعماق، تقول عن ذلك “هذا المخزون الذي قد لا يعني لمطلق أي إنسان الاطّلاع عليه بقدر ما يعنيني شخصيًا، هو الراحة والتركيز على حفظ بقايا من التوازن حتى أستطيع العبور فوق ذلك الجبل الرفيع، حتى أصل إلى ينبوع النور المؤكد الذي يدعونه الموت
الكاتبة والاعلامية دارين حوماني