عجائز مونبلييه
.. مثل تماثيل رومانية، ترى عجائز مونبلييه على مقاعدها، في المطاعم وفي المقاهي وفي الساحات العامة بكوميدي وبوليغون والكوروم وغيرها. تراها، وقد برزت مزدانة ومتميزة: أناقة وأصالة وحداثة في غاية البهاء والجمال. وتاج من الأبيض الناصع، يضيء هامتها.
.. الشيخوخة لا تعيق الفتون بالنفس لدى تلك المرأة التي ناهزت الثمانين من العمر، وهي على دراجتها في الرصيف المخصص لها. وهي كذلك لا تعيق ذلك الرجل العجوز يقرع دهره بعكازه على الأرض، ويمشي بخطى ثابتة، حيث الدفء والشمس. وربما أطل عليك بقامة ممشوقة، كأنها قدت قدا من مياه نهر الليز الهادئ، وهو يقول عن نفسه: أنا إمتداد للمياه الطويلة. من جبال البيرينيه، حتى بحر بيرول ومونبلييه، لصفائها. لرقتها. لرقرقتها. حيث يترقرق العمر هادئا على جبينه العالي، وتحته الجحوظ الجميل في العينين الزرقاوين، كطاقة من سماء مونبلييه، ذات صيف رائع، فوق زرقة البحر.
ترى نسوة الثمانين في حدائق مونبلييه، كأنهن آنسات كنيسة المهد أو القيامة في أورشاليم: الشالات البيضاء المطرزة والفساتين السوداء الطويلة. والسراويل ذات الجيوب التي تزين النطاق الدقيق المرسوم والموشوم. وفي اليد حلقة جميلة لسلسال طويل، إلى عنق سليل الشيواوا أو البومس أو التزو. وربما كانت تحتضنه سعيدا بها على صدرها المرصع بالنجوم، في جعاب مخصوص من الجلد والقماش المزركش، يحفل بالأناقة والجمال.
كلما باكرت الصباحات مع الطيور، ومع الحافلات والترامات، تلاقيك عجائز مونبلييه، وهن يمشين ممشوقات مثل قصب السبق في الطرق المخصصة للمشي. أو تلك الصالحة، لمشية كبار السن كملوك قديمة. وربما وجدتهن أمامك في الحافلة أو الترام، على مقعدهن المخصصة لهن. وإذا ما كانت تغص حتى الإختناق بالذاهبين إلى أعمالهم، من الموظفين والتلاميذ والطلاب ترى كيف ينهض الفتيان والفتيات عن مقاعدهم، ويقدمونها، بكل أدب وحشمة للمسنين والمسنات، رجاء الحفاظ على راحتهم وكرامتهم. وإلتماسا منهم لرفع معنوياتهم بين الحشود.
على مقاعدهم المميزة بعلامات مخصوصة، تحت أشجار الدلب الدهرية، وأمام البرك المائية التي يسبح فيها الدجاج الأسود والبط، بلونيه الأسود والأبيض، ترى عجائز مونبلييه من الرجال، وهم يحطون على مقاعدهم، كأنهم إمتداد لزمان اللجين والذهب الأصفر والمحمر. وعندما يقرع جرس الظهيرة، تراهم يتوجهون إلى صالات المطاعم المريحة لهم. والتي إعتادوا التحلق فيها، إلى طاولات الأطباق الشهية. يمضون السويعات الجميلة. ربما مع أفراد العائلة. وربما مع صغير الشيواوا، أو الصغير الروسي الجميل. فأعظم ما يؤنس عجائز مونبلييه، صغار الكلاب الدافئة، بملمسها الرقيق. وبشعرها الطويل. وبعيني الجؤذر، يبصبص بهما في كل الجهات، مستطلعا سعادته في اليد العجوز. وفي المشية العجوز. وفي عصا العجوز بسلسالها الطويل حتى الطوق المزين بألوان الأزاهير والورود.
وجه عجوز مونبلييه، له سقسقة الندى على عشب حدائقها وترابين غصون السرو والعفص والشوح والأرز. وجه مليء بالشمس. مليء بالثلج.تداعبه الأنسام العليلة من الصباح حتى المساء. وأما في الليل، فله كل السكينة والهدوء. وجه له فرادة المنحوتة الرومانية، له فرادة المصكوكة. براها إزميل فنان عظيم بيديه الخضراوين، من ماء ومن عشب. وجه مؤنس لجليسه بالتحيات. بالإبتسامات. وبإرتجال المحادثات، وكأنه خارج لتوه من معاهد العلم في العصر الوسيط. حين كان العلم له طعم الأرستقراطية، وشموخ الهضبات المخضرة. وشميم الجنائن المعطرة، بأنواع الرياحين، تستيقظ الأفئدة باكرا.
عجائز مونبلييه، تعيش على رسلها. تهتم بالكثيرين منهم الجمعيات التي تعنى بكرامة الشيخوخة. تقف على خاطرها، وتتلمس حاجاتها، وتؤمن لها ما تحتاجه من أدوية، ومن مستلزمات طبية. وأما أهم بل أجود عطاياها: الإيناس والمواساة والوقوف على متطلباتها، بالسرعة القصوى.
عجائز مونبلييه، يعيشون في شباب دائم. كل وسائل النقل مؤمنة لهم بصورة مجانية. ولهم خدمة خاصة في المطاعم ودور التسلية والسينما. تحفل بهم بلدية مونبلييه: فعجائز هذة المدينة العريقة، تتابع خدماتها على كبار السن، منذ العصور القديمة، وكأنها الآن قد بدأت..
هكذا أفاء إليها والد نابليون بونبارات. إرتضى مونبلييه: هذة المدينة الراقية، أن تكون خاتمة حياته فيها. فهي ترد التحية بأجمل منها. وهي تحفظ الكرامة وحسن الوفادة. وبركة اليد التي لامست عشب دروبها وملاعبها. وملأت للمسنين الساكنين، سلال حياتهم قمحا، من سنابل العمر التي جنوها، حين وضعوا لها الجناح.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين