عازف الرؤى
عازف الكمان، أم عازف الرؤى، ذلك الرجل الذي ينكب على آلته الموسيقية، في وسط كوميدي، قبالة مبنى الأوبرا- مونبلييه، وعن يمينه وعن يساره أيضا، تنتشر مقاهي الأرصفة. يدير ظهره إلى ساحة بوليغون، ثم ينكب على كمانه، يعرك آذانها، و يصب كل هواه وكل شغفه وكل رؤاه، على تلك الخيوط المشدودة، كأعصاب عروس في مطلع العمر، تريد أن تثأر لتاريخها كله، منذ أن نمت بين يديه الحانيتين، وردة الأذن، ونرجسة الرابية.
يجيء مع الشمس، حين تعلو قليلا، لشبر أو شبرين، فوق المباني التي تعبق بتاريخها. يضع إلى جانبه جعبته، على دولابين صغيرين مرهقين بأثماله القديمة. ثم يأخذ يتحسس كرسيه، يديرها. يتلمسها. يتأكد من أنها لا تزال صالحة لبقية عمره، فوق ساحة الكوميدي، بعد أن جاءها فتى، ثم شب عليها. غزاه الشيب من بعد نصف قرن، ظل يسكب ما في قلبه عليها، حتى أحالها بركة، من ماء وجهه. وجدولين أحمرين ينبعان من عينيه، وينصبان عليها.
ترى رخام الرصيف يصغي إليه، فما بالك بقلوب الزائرين والوافدين والعابرين مثل الأزمنة. فما بالك بقلوب العشاق والعاشقات، وقد جمدت في مكانها. فما بالك بالشمس، وقد توشحت بشالات من الغيمات البريئات. كادت خيوط الذهب أن تساقط منها. فما بالك بعرائس المدينة كله، وقد أقبلت، تلم الرؤى الصيفية، من أثير، راح يكر خيوطه، مثل شرنقة، مزقتها أحلامها.
فنان الرؤى، هو عازف الكمان في كوميدي، قبالة دار الأوبرا. يجيء بالأزمنة كلها دفعة واحدة. يجيء بالأحزان كلها. يجيء بالأحلام كلها. يجعل جميع القلوب تخف على هواها، مثل ريشة رسام، يفرش اللوحة بالألوان، ويضعها للشمس، حتى تأخذ قبلة منها.
كنت أصغي إليه، فلا أرى إلا الكتاتيب تطير من راحتيه، إلى الأرجاء كلها: رسائل إلى الجهات البعيدة: أن جميع الأماني وجميع الأحلام، لا تزال حية في النفوس. تراها تنبعث، كلما قاربها الندى من قلوب إشتاقت إليها. كنت أرى كيف تتفتح أكمام الورود، في الحقول المهجورة. في القرى المنسية. فوق السطوح التي غاب عنها هديل الحمام وزقزقات الحساسين، التي هجرتها الحروب.
عازف الكمان، أم عازف الأحلام، أم عازف الرؤى، هو ذاك الرجل العجوز الذي كان يقيل في ظل غيمة، ظهيرة ذلك اليوم، حين كان يعزف، فيندى الرخام، حين تأخذ آلته بأوجاعها، وينسكب المطر، من بين أوتارها. تمطر الأوتار عادة في القلب، حين تصغي مليا لغيمات شدت، مثل الحمام، مثل اليمام، مثل حساسين الحقول، هجرتها الصبية قبل أن تمسح الأمهات أجفانها.
فنان الرؤى، عازف الكمان في كوميدي- مونبلييه. ترى الشمس فوق جبينه، يقيس ضوأها بنظارتيه السوداويتين، وبكتفيه العريضتين، وبقجة بين يديه. كل يسمع ما يريد. هل رأيتم عازفا، يوقع للآذان ما تشتهي. يوقع للعيون ما تحب أن ترى. يوقع للعابرين خطوهم، ويجعلهم يهرعون إلى الرؤى.
كلما كان الصباح يشق قميصه، كنت أرى عازف الأحلام، يخرج من صدره. يؤنس الرخام بأوتاره. صارت الأوتار أخوة الرخام، أخوة الأحلام. أخوة الرؤى. كوكب من كوميدي، هو هذا الرجل الذي إعتمر قبعة الشمس، وجلس للكمان، ينشد على رسله، ويستأني المشوقين إلى ألحانه.. كأنها قطعة من زمانهم، من أحلامهم. من أفراحهم. من أحزانهم.. ثم يدور بصحنه، طرة من هنا، وطرة من هناك. يلتقط القلوب كلها، ولا يتعب…
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.