القصر المائي بمونبلييه
أينما كنت تتوجه في مدينة مونبلييه القديمة، تطالعك الآثار الشامخة، والتي لا تزال تشهد على ماضي المدينة العريق، في الفنون الهندسية والمعمارية.
لا أريد هاهنا أن أتحدث عن قديم القصور ولا الفنادق ولا الخانات ولا الأسواق. كما لا أريد أن أتحدث عن قديم عمارة الكليات الجامعية، ولا عن المعاهد، ولا عن الكنائس والكاتدرائيات، فهي تحتاج إلى قراءة متأنية، لا أحسبني على قدر من العلم بها، لسعة موضوعاتها. ولتفرع هذة الموضوعات وإنسجامها ووحدتها. فالعمارة الهندسية في مونبلييه القديمة، و التي تنتمي إلى العصور الوسطى وعصر النهضة،
هي بجملتها أخاذة للغاية، بحجرها الأبيض الضاحك على مرور القرون التي عبرت به إلى الآن.
أجدني هاهنا مأخوذا ب”القصر المائي” في مونبلييه. وأحسبني معجبا أشد الإعجاب بالقناطر التي تحمل الماء إلى حارات المدينة القديمة، وإلى حديقة الصيدلة التي تقع في “بيرو” من المحلة نفسها.
تقف في أعلى “بيرو”، وظهرك إلى قصر العدل. وقبالتك الملك لويس السادس عشر على صهوة جواده، وخلفه القصر المائي الذي كان يروي حارات المدينة كلها، القريبة منها والبعيدة.
للوهلة الأولى، تخال أن نهر ال”ليز” هو الذي يزود القصر المائي بالجدول الرقراق من اللجين الصافي. غير أن الحقيقة، أن الماء يصعد إلى قصره، من تحت إلى فوق. وهذة ميزة هندسية معجبة. ولم تكشف أسرارها بعد.
لا أريد أن أغوص في هذة المسائل، لئلا أخطئ في حديثي. غير أني أريد فقط، أن ألفت إلى هذة الحلية المعمارية ل”القصر المائي”، بواجهاته الأربع والتي تزينها العمدان الجميلة، فتبدو من بعيد، كالأسطوانات الحجرية المنحوتة. ولا يزال الماء يملأ صحن هذا القصر الأخاذ حتى الآن، وإن لم تعد المدينة تحتاج إليه، لأنها حدثت الخزانات ومصباتها، كما في سائر المدن.
بالإضافة، إلى عمارة “القصر المائي”، تستوقفك عمارة الجدول الأساسي، الذي يحمل الماء على ظهر القناطر الحجرية الجميلة. وهي تمتد لأكثر من خمس كلم، على أقل تقدير. تزينها وتصطف قبالتها أشجار الدلب العالية. ولا غرو فمدينة مونبلييه، تخيم فيها منذ القديم، أشجار الدلب التي كانت تحرسها، كما تقول الأساطير القديمة.
أعمدة ضخمة تحمل القناطر الحجرية، دون أن تتعب منذ العصور الوسطى. وعليه، فقد أصبحت مقصد الزوار، يأتون لزيارتها، من جميع الأرجاء الفرنسية. كما يقصدها السواح الأجانب، لأنها تمثل معلما أثريا راقيا. يدل على مقدار إهتمام البناة الأول، بحياة الناس وبحياة المدينة.
لا أظن أن زائرا حطت قدماه في مونبلييه، إلا وزارها وأعجب بها. والتقط لنفسه صورة تذكارية مع قصر العدل والقصر المائي والقناطر الحجرية. ثم ليستريح أخيرا تحت شجرة من شجرات الدلب العاليات، ويلتقط لنفسه صورة، مع الملك لويس السادس عشر على صهوة جواده في الساحة المشرعة على كل الجهات في أعلى التل، يروي الصفحات العراض، من تاريخ مدينة مونبلييه التي أحبها.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.