مساء مونبلييه
رأيت المدينة تلبس حلة الميلاد هذا المساء، أواخر شهر تشرين الثاني- أوائل شهر كانون الأول. كل شيء تنسحب عليه الزينات: الأشجار والأرصفة وأعمدة الإنارة، والمقاهي والمحال. سارعت البلدية لتزيين المدينة القديمة والحديثة على حد سواء.
ترى الناس مساء، يحتشدون أمام المطاعم والمقاهي. يطلبون السندويشات السريعة، وكاسات المشروبات الباردة والساخنة. ويستعرضون أنفسهم في الساحات العامة. يختالون بأزيائهم المتعددة، وكأنهم في أحلى المدن. خصوصا في كوميدي.
دروب الليل كلها في مونبلييه، تنطلق من كوميدي، بإتجاه قوس النصر وساحة الملك لويس الرابع عشر، حيث يقام هناك سوق الميلاد، حتى آخر العام. يزدحم الزائرون، في الطرقات المؤدية ألى كوميدي، أو تلك التي تنتهي في محلة بيرو. خرجت العائلات تحمل أبناءها الصغار على الأكتاف. يجولون في الأسواق المزينة. وخصوصا في كوميدي وكوروم وساحة قوس النصر، وتمثال الملك لويس الرابع عشر على جواده بين صفين من أشجار الدلب الباسقة. يجتمع التاريخ القديم والحديث هناك. وأما الميلاد، فهو فرصة الجميع للفرح والغبطة. وأيضا للتجوال في ليل المدينة القديمة، لأنها أبلغ في التأثير في النفوس.
إزدحمت أسواق المدينة القديمة في مونبلييه، بالناس من كل الأعمار. وقد فتحت المحال التجارية فيها على غير العادة. تماما كما عمرت المقاهي بالرواد. فما من مقهى في وسط المدينة القديمة، إلا وقد إحتشد فيها زبائنها القدماء والطارئون. كل ينشد السهر والفرح في المقاهي وفي الطرقات. ويدلف من هناك إلى المدينة الحديث، في Polygone أو Odyssumm، أو على ساحل المدينة حيث الأسواق العامرة، وحيث المنتجعات في البلظات المشاطئة للمتوسط الكبير، وخصوصا في Pèrol و Cornet و Palavace.
في وسط المدينة لكل مقهى زيه الخاص، يلبسه النادل. وهو زي مميز في أغلب الأحيان. وترى على كل طاولة دفتر الطلبات. دونت عليه الحاجات الباردة والساخنة: المأكولات والمشروبات. وقبالتها دونت الأسعار. وجميعها مقبولة. وهي ترضي الزبائن عادة. وتماشي أوضاعهم المادية. خصوصا في شهر الميلاد ورأس السنة. وترى روائح الأطعمة المدخنة بالأفاوه، تمازج العطور، في محال العطورات.
ساقتني قدماي إلى مقهى في بيرو، قبالة ساحة الملك لويس الرابع عشر وقصر العدل وقوس النصر. إخترت أن أكون لساعة في مقهى مزدحم بالصبايا و بالشباب. وأضع التاريخ الفرنسي القديم، قبالتي، وأنظر إليه، بكل عمق، في هذة الاوقات. كان المقهى حقا محتشدا بالرواد. وكان مما يمايزه، هو صالته الداخلية. وصالته الخارجية المثلثة، لوقوعه على تلاقي الطرقات الحجرية القديمة، الصاعدة من ساحة كوميدي، إلى المدينة القديمة وقوس النصر وساحة قصر العدل وتمثال الملك شارل. كان الحجر الأبيض يضحك للزائرين. ظل على عادته الفاتنة هذة، منذ القرون الوسطى، ولم يغير عادته حتى الآن. كان كل شيء في الحاضر الفرنسي يتغير، إلا الحجر الأبيض الضاحك على هؤلاء.
كانت نادلة المقهى بشوشة ومؤدبة وترتدي زي المقهى الرسمي. يتوسط القميص الأبيض في أعلاه، عقدة الكرافات الكحلية. وذلك على بذلة سوداء رسمية. وتتدلى الياقة الجميلة من عنقها، ترحيبا بالرواد الشباب في عمر الزهور.
لساعة وأكثر، ما توقفت حركة الرواد عن الدخول والخروج. كانوا يأتون إليها أفواجا أفواجا. وكانت المصابيح الملونة تزين المظلات المضاءة. وفي أعلاها علقت الشمعدانات. وكذلك أجهزة التدفئة الكهربائية. فبدا كل شيء على دفئه وجماله، والأنوار تتلألأ في جميع أرجاء المكان.
ما أن ينهض البعض عن طاولة حتى يحتله القادمون. فالموسم في مونبلييه، هذة الأيام، زاهر ومزدحم. والمدينة دافئة في عز الشتاء لكثرة الوافدين إليها من أهل الشمال. يطلبون الدفئ في مونبلييه عند أهل الجنوب. فهي عاصمة الجنوب الفرنسي بإمتياز. ولا تزال الطريق منها إلى إسبانيا، مرسومة بالقطارات وبالباصات، من محلة سابين في أعلا مونبلييه، إلى برشلونة والنواحي التي تحتف بها. فالناس يؤمون مونبلييه، لدفئها وتاريخها وحضارتها ومنتجعاتها وحاناتها وفنادقها التاريخية. وكذلك لرخص الحاجات فيها. بالإضافة إلى جمالها التاريخي المميز. فهي من أقدم المدن الفرنسية. ولا تزال محافظة على طابعها هذا حتى اليوم.
وسط مونبلييه التاريخي، ممتلئ بالدوائر الرسمية. وكذلك بالكليات الجامعية. وبالفنادق التي تعود إلى القرن الثالث عشر. وأهل الشأن في بلدية مونبليية، والقيمون على إدارة جمالها، يحافظون على قيمتها السياحية. بشوارعها وأحيائها، بحيث لا يسمح للسيارات بالعبور في شوارع المدينة القديمة. لأنها تضيق عنها. فهي مجهزة للعربات القديمة وللجياد. وأما أسواق بوليغون-Polygone، وOdysseum وPerole فهي في منتهى الحداثة.
في وسط مدينة مونبلية، تقع محطة القطارات القديمة، التي تصل إلى جميع الجهات تقريبا. وقد أنشئت في ظهر المدينة الحديثة، محطة رائعة، للقطارات السريعة-TGV أيضا. وهي تتصل بPlace de France, حيث المدينة الجديدة وأسواقها، بشبكة من المواصلات. هناك أيضا، شبكة خزانات الماء الحجرية، لا تزال تعلو قناطرها. وهي منذ إنشائها في القرون الوسطى على حالها. يؤمها الزائرون من جميع الأنحاء، لأنها تدل على روعة الهندسة المائية عند القدماء.
وفي الجهة المقابلة ل كوروم-Corme، تقع قلعة مونبلييه وسورها التاريخي القديم. وقد تحول قسم منها، إلى ثانوية عامة، وكلية جامعية. أما أسواقها القديمة، فهي لا تزال محافظة على جمالها. يميزها الحجر الأبيض الذي تتزين به جميع جدرانها القديمة.
وهناك أيضا، الليجورا- Laygora، ودار الموسيقى وكلية الحقوق الملاصقة لها. فمن يزور مونبلييه في هذة الأيام، يحظى بالأطيبين: القدامة والحداثة.
فبإزاء المدينة القديمة، نهضت المدينة الحديثة حولها. تحتف بها، وتزيدها جمالا. وتسارع لخدمتها. حتى باتت مونبلييه، مدينتين في مدينة واحدة، تؤلف بينهما شبكة المواصلات المجانية لأهلها، بدعم من مجلس بلديتها الزاهرة. حتى تظل مونبلييه، قبلة الزوار من شتى أنحاء البلاد، خصوصا في موسم الشتاء.
مونبلييه، في الجنوب الفرنسي، لا تزال عامرة بأهلها وزوارها وطالبي السكن فيها، وطلاب الجامعات، بشتى الإختصاصات.
ولهذا صارت مونبلييه قبلة الأنظار لدى الوافدين إلى الجنوب الفرنسي، لجمالها وتاريخها وحداثتها.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.