محمد خليل كتابا:
“السنوات العجاف” صعب التصنيف…
” نصوص الكتاب هذة، توزعت على خمسة مجالات: نصوص أدبية. وشذرات فكرية وفلسفية. بعضها يعود لفلاسفة ومفكرين بأسمائهم. والبعض الآخر يعود لي شخصيا. إضافة إلى نصوص علمية أغلبها في علم النفس. وكتابات سياسية متنوعة. وأخيرا: أقوال مختارة لفلاسفة ومفكرين.”
عرفت دنيا الآداب، مؤلفين مياومين. يثابرون يوميا على فن الكتابة. لا ينامون على ضيم الأفكار التي تعج بها صدورهم. يأخذهم قلق الكتابة اليومية كل يوم إلى حقلها الغني . يقضون هناك متعهم: أنهم شقوا وبذروا وغرسوا. وكفى بذلك فخرا. وأدوا قسطهم للعلى. فكانوا إذا ما طرقت بابهم فكرة: كتبوها على أكمامهم حتى لا تضيع منهم. وكانت لهم دفاتر وأوراق، تسجل عليها ثمرات القرائح المعجبة. وكانوا دائما يفاخرون أنهم يضعونها في الكشكول. حتى أن من الأدباء القدماء الأفذاذ، من سمى كتابه “الكشكول”. وهو كتاب نفيس للغاية.
أذكر أيضا الثعالبي: الذي ترك لنا كتابا في غاية الرقة، أسماه: “ثمار القلوب في المضاف والمنسوب”. وإما الأبشيهي، فسمى كتابه الذائع: “المستظرف من كل فن مستطرف”. فنبعة الكتابة أصعب من أن تحجزها عنا صدور رجالها.!
الأستاذ محمد خليل، كاتبا وأديبا ومفكرا، هو واحد من هؤلاء النخب الثقافية التي شهد لهم القراء، بنفاسة ما يجمعونه، وما يدبجونه. وبأهمية ما يختارونه:
” محمد خليل:السنوات العجاف. فواصل. بيروت-2024: (276 ص. تقريبا)”،
غلاف الكتاب الصادر عن دار فواصل في بيروت
إنما هو كتاب أدب وعلم وثقافة شاملة. يأخذ من كل فن بطرف. وهو لشدة إكتنازه بالمواد الثقافية الهامة، وبثمار القرائح الإنسانية الخالدة، وبالكثرة الكاثرة من المواقف السياسية والإجتماعية ذات الطابع الللبناني والعالمي، إنما نجد صعوبة في تصنيفه. وهو الذي يقول، في خاتمة عمله الجاد والرصين و الثمين:
“إنها لتجربة”.
فهو إذن من نوع الأدب التجريبي، بلا شروط مسبقة. وهذا النوع من الأدب المكتوب، ذائع الصيت، تداوله الكتاب والشعرا والمؤلفون، فقالوا بالشعر التجريبي. وبالأدب التجريبي. وبالفنون التجريبية. أما في باب العلم فقالوا: التجربة العلمية.
محمد خليل، كأنه كان يريد التكتم على الرعاع، غير أن طبعه الأدبي والثقافي، وحياته اليومية الملتزمة، بالإنسان وبالمجتمع، جعله منذ البداية، يؤكد مقولة آلان رونو، في كتابه الذائع: “نظام التفاهة”، حين قال: “التافهون حسموا المعركة لصالحهم هذة الأيام”.
في نصوصه الأدبية نجد الجزالة والرشاقة في تناول الموضوعات المختلفة: خصوصا حين يتحدث عن السلام، والعطاء والتحيز. وعن عشق الطبيعة. وعن الحنين إلى الأمكنة، حيث الحب الأول وزمن الشباب. وهو يأسف أنه لم يذق لذة الحياة، طيلة عمره، إلا لفترة ضئيلة، بعدما أصيب بلعنة المكان والزمان، فكان ما قال عنها: إنها “السنوات العجاف”. حين صار إلى الحياة في مجتمع الغابة. فصار يستأنس بكتاب كليلة ودمنة، لما يجد فيه من حكمة. تماما كما يستأنس بالقراءة التي تصنع الفرق في الحياة المعاشة.
يتوقف الكاتب المجد محمد خليل في عمله، عند ما أثر عن فيلسوف اللذة أبيقور، الذي شرع الأبواب للموسيقى والحب والحياة. والتعامل العادل، على أساس من مقولته الشهيرة: ” اللذة هي منطلق وغاية الحياة السعيدة.” ويقول الأستاذ خليل: إن فلسفة أبيقور، سرعان ما صارت مدرسة الشعوب التي عاشت على ضفتي البحر المتوسط. وهي ما تتميز به حتى الآن.
يطعم الأستاذ محمد خليل تجربته الأبداعية بالمزاوجة بين الأدب وعلم النفس. فلا معنى عنده للامنتمي، لأنه يهدر نفسه ويهدر الوقت. وعلى الإنسان ألا يشغل نفسه بدفع الموت. فهو عنده ليس سيئا بالمطلق. لأنه حتمي، فلا يشغل المرء نفسه ب”ما بعد حياته”. فهذا من قبيل مناحرة الطبيعة الخلاقة.
يتذوق الكاتب محمد خليل، تجربة محمد الماغوط، في معنى الوطن، الذي نهبه الحكام وأفرغوه من معناه، وطلبوا منا أن ندافع عنهم وعنه. وهو يؤكد لنا الفروقات الهائلة، بين معنى الحضارة والتوحش. ولا ينسى في هذا المجال أن يقف عند مفهوم سبينوزا، حين يقول: الثلاثة العظام: كوبرنيكوس الذي أزال الأرض عن مركزية الكون.
ودارون: الذي أزال الإنسان عن مركز الأرض.
وفرويد: الذي أزال الوعي من مركز الإنسان.
هناك موضوعات كثيرة ضمنها المؤلف كتاب حكمته: نسمعه يقول مثلا، أن لا شيء يدفع الإنسان لتكرار الإنجاب، مرة بعد أخرى، سوى الأنانية المطلقة. ويقرن ذلك بقول طاغور: علمني أن لا أقول الباطل لأكسب تصفيق الضعفاء.. ويتلقف من جانب آخر مقولة شوبنهاور: الكاره للعزلة، إنما هو كاره للحرية.
رجل التحديات، هو الكاتب محمد خليل يتنكر للمجتمعات المغلقة ويرحب بتلك المنفتحة منها، على الحريات العامة، شرط أن تكون قائمة على العدالة الإجتماعية. وهو يرى في غضب اللبنانيين، ثورة على المعوقات الإجتماعية التي تطالهم في حياتهم. وتراه إلى ذلك يخشى النزعات الإحتفالية، عند كل المفترقات الإجتماعية، لأنه يجد فيها ما يؤذي الحياة نفسها. تلك القائمة على البهجة وحدها دون سواها. فهو كما نراه: يحب الحياة، زقزقة العصافير، لا قرع الطبول، ولا الهتافات المغناة بطلب التحشيد للتزوير والفرقة المجتمعية.
يتحدث الأستاذ محمد خليل أيضا، عن التكيف والتمرد. ويقيم معارضة بين الحياة في القرية والحياة في المدينة. ( أنا وبيروت). وحينا نراه يرثي الأصدقاء وحينا نراه يقرع شباب اليوم. وهو يأنف من التكاذب في الفايسبوك. يريد النصر الحقيقي. ودروس الحرب. ولا يريد الموت الغامض ولا الكتابة الغامضة. ويعتبر أن ل “كورونا”، حكمتها في إلزام المجتمعات معنى الخلاء للطبيعة.
الكاتب الشفاف محمد خليل، يريد الذهاب إلى السلوك الثوري بين السياسي والإجتماعي.. وهو يكره العنف الديني وتزييف الثقافة. ويمايز بين الأحرار والعبيد، ويشجع الكتابات الجادة والجريئة. متوقفا عند فيلسوف القوة نيتشيه، وما يفي بحاجة المجتمع للنقد والنقد الذاتي والغوص في تحليل الجنة والوصاية والتجربة السياسية البغيضة، والوطن الصريح.
يعتبر محمد خليل، أن حفلات توقيع الكتب، ليست إلا تجارة أكثر تهذيبا. وأننا صرنا بحاجة لقاموس عربي- لبناني يشرح لنا كيف تصير الهزيمة نصرا. وكيف يكون النائب ممثلا على الشعب لا عنه. وكيف ينقلب مفهوم الإحسان إلى غاية بغيضة: غاية الوجاهة.
التطعيم بين الأدب وعلم النفسي، هي من الإتجاهات التي يألفها الكاتب في عمله. فتراه يعقد لنا من النفائس، نصوصا نفسية راقية، حين يتحدث عن الفرق بين الشاذ والسوي، وعن النضج الإنفعالي. وعن التحليل النفسي، لمسائل الإقلاع عن الغضب وتعريف الأيحاء. وكذلك مفهوم الإشباعات البديلة، بشأن الإعلاء والتبجح والظفر بقيمة زائدة.
حوى مؤلف الأستاذ محمد خليل، ما يعتبره من الكتابات ذات الطابع السياسي. وهو في هذا القسم كان جريئا للغاية: فأودعنا بعض الموضوعات التي تكشف لنا طاقة المجتمع على إحتمال الإجرام السياسي وجريمته وكل جرائره. وقال بما توحي به الحروب من مهازل. كما تحدث عن تخلي النواب الجدد عن أدوارهم. وكان يشرح لنا نظرية الفعل ورد الفعل، وكيف يتم تغيير وجه لبنان اليوم.
يتألم الكاتب، لما يراه جاريا في دولة الطوائف والمذاهب. وكيف أن الشعب يتفرج على مهازل التاريخ وكأنه من جمهور كليلة ودمنة. يكاشفنا بالمهانات التي يذوقها الناس في حياتهم التي يقطعونها، بين الحكام و التجار. وكيف أن الفريق المغالي ينتظر الجنة. ويقول: نحن أحوج إلى الدولة العلمانية. فلا تقرير مصير ولا ما يحزنون. ووداعا للبنان الذي كان، في ظل هذة الدولة الفاشلة، التي سوغت سرقة أموال المودعين. ثم جاءت ثورة 17 تشرين بنواب جدد، ما عرفوا معنى ما يذوقه الشعب من آلام. ولا تذوقوا نكبة اللبنانيين. ولا تلمظوا مرارتها.
الكاتب الأستاذ محمد خليل، قدم لنا جزالة معرفته الأدبية والثقافية، فيما عرض علينا من موضوعات. وقد أتحفنا في خاتمة كتابه الأثير بفصل حوى بعض الأقوال المختارة لفلاسفة ولمفكرين ولأدباء نيرين. وهو الذي يقول: حين لا نجد الراحة في ذواتنا، لن يجدي أن نبحث عنها في مكان آخر. وإذا لم تستطع أن تجعل فلسفتك وأفكارك أسلوبا لحياتك، فإن كل ما تدعيه من ثقافة مجرد هراء.
طوبى لك أخي وصديقي أستاذ محمد على هذة التحفة الرائعة، التي أضفتها، إلى خزانة مؤلفاتك الثمينة، وما أبلغ ما جاء في الخاتمة، حين أسمعتنا صدى صوت جبران خليل جبران الذي نشتاقه في ديار الغربة هنا في أميركا/ القارة، يوم كانوا في زمانه، يمحضونه ثقتهم عن ثقة، لا عن خداع و غش، كما فعلنا نحن به فغادرنا وهو يردد على الأسماع كلها:
هوذا الفجر فقومي ننصرف/ عن ديار ما لنا فيها صديق.
ما عسى يرجو نبات يختلف/ زهره عن كل ورد وشقيق.
وجديد القلب أنى يأتلف/ مع قلوب كل ما فيها عتيق.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين