أثبت من أكون
” ما جمعني بالكاتبة، ثقافتها، وإنفتاح شخصيتها، وثباتها في رسالتها. وفي بعض الأحيان، غرابة شخصيتها، وخروجها على العادي والمألوف، والحفر في العمق، وهي تحاور في شؤون الفن والفلسفة والروح”. ( د. ربيعة أبي فاضل- النافذة)
لا يعرف المرء كيف يواجه قدره، إذا ما فاجأه وهو في غفلة منه. يعود إلى عمق ذاته. يفجرها ويشرب من ينبوعتها، ما يجعله يقوى على مصارعة جميع ألوان العذاب. ثم يشق طريقه، نفسه بنفسه، ولا يلتفت إلى محيطه، إلا بالقدر الذي يرى في محيطه، ما يجعله قويا على أخذ القرار.
” منيرفا. وجع الجذور ووله النور. ترجمة: د. ربيعة أبي فاضل. منشورات منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة.2024″.
تستعيد ميرا سيرتها الذاتية، منذ كانت طفلة تلهو مع بنات جيلها، في دارة أهلها شرق صيدا. تفاجئها الأحداث الجسام التي جعلت الدارة الصغيرة، تنقلب على ظهرها، ويخرج الأهل في رحلة التيه والتهجير. وتتوالى الأيام. وتتوالى الشهور. وتتوالى السنوات. والكاتبة تنتقل مع الأهل من وجع إلى وجع. تتقلب على نيران لا يعهدها إلا الذين قسا عليهم الدهر بنابه. ولهذا تبدأ عندها حياة المطاردة، في الأمكنة والأزمنة. وفي إنقلاب الحياة عليها، كمن يتعرض فجأة لظهر الترس. لظهر المجن.
” ولأن الحرب بين المتصارعين، على أرض لبنان، كانت تزداد، لجأت بعض العائلات إلى الطابق السفلي عندنا كي نحتمي معا من القذائف.”
سردية مينرفا، تقارب عصرا بكامله في لبنان. ذاقت حلوه ومره. تتذكر أجمل ما فيه، فتغطبت. وتتذكر أسوأ ما فيه، فتراها، تغضب وتنقبض. تعيش تراجيديا المكان والزمان: فلسطين ولبنان، وبينهما مشاق الحرب الإسرائيلية التي تشن، كلما مضى عقد من الزمان. فلا تراها تعرف كيف تستقيم لها الحياة.
” ومنذ إحتضنت ذراع تقلا المشوهة الباردة، تسربت صورة الموت في لاوعيي وإتخذتني مقرا دائما لها.فصار الموت رفيقي، وفضاء مناجاتي.”
ميرا تغادر الأمكنة. تغادر الأزمنة. تشعر أن كل شيء ينقلب عليها، ويملأها بالجراح. ولهذا تبتئس حينا، حين تكسف الشمس عن بلادها. وعن جوارحها. وتضحك، حينما تغور في ذاتها، تجد حتى النور ولو في آخر النفق الذي تكاد أن تنفق العمر فيه. فتشعل مثل الشمعة النور من ذاتها.
” أنا في الثامنة عشرة. إهتز كياني وتضعضعت أفكاري. ولم يعد السرير لراحتي. ولا الغرفة لأذوي إليها. ولا هذة المدينة الغريبة هي ملجأ لي!”
أصح ما يمكن أن يقال في “مينرفا”، هذة القطعة العذبة من سيرة حياة ميرا، أن المرارة والحلاوة، إنما هي من طعم ذائقتها التي نمتها المرارات كلها، من اول دهرها في ملاعب الطفولة، حتى النهايات التي حولتها. إستطاعت الكاتبة بقلمها وبألمها، أن تقلب المعادلات كلها. وتجعل من الحنظل الذي تذوقته، كوبا من الماء الزلال، الذي تقدمه لنا.
” ورأيت أن ثورته وثورتي، تتخطيان حدود الأرض. تخترقان قوس الغمام البهي ومعظم ألمي، أو غضبي الصامت. إدرته إلى الله- الحب مثال أهلي.”
نجحت الكاتبة، في تدوين مذكرتها. ونجحت أيضا في صناعة تلاوينها. فصارت كل دنياها مشوقة. عرفت كيف تصوغ في المرارة طعم الحلاوة.
“هذا الوجه المجبول بالمآسي والأفراح، جعل ثوتي تهدأ.”
ميرا في سردية مينرفا، بطلة رواية، تعيش عزلتها، كلما تقدمت الحياة بها. تطيب لها العزلة القاهرة، لأنها من نوع العزلة الروحية، حيث يتسع فيها الفضاء للرؤيا. عزلة عرفانية عذبة لا قهرية. نسجتها لنفسها من حرير لعابها. أضاءت لها جوارحها كلها، وجعلتها ترى ما لا يرى من دنياها.
” فجر الرابع من تشرين بكرت إلى الكتب، وجهزت كل شيء…تم تأجيل الإمتحان إلى موعد آخر…رأيتها فرصة لأبحث عن عمل أملأ به الفراغ.”
لهذا ربما، نرى ميرا تبحث عن نفسها، في سردية مينرفا. تثبت من تكون. وشرط الصوفية، عند أهلها، أن تأتي لها على قاعدة الثبات الروحي. على القاعدة التي تقول لنا: “أثبت من أكون”.
“وكانت دهشتي عميقة ومصدر تعزية… والخيط الذي أبحث عنه لأعبر إلى قلب أبي من جديد.”
لا شيء يعادل مثل هذة الصراحة، لكاتب فيما يعيش وفيما يكتب، دون حياء من تاريخه في الحياة وفي الكتابة. وقد خلصت ميرا، حين قررت أن تكاشفنا، بجميع كشوفاتها الروحية، أنها لا تشذ عن هذة القاعدة في حياتها.
” كان الحنين إلى أرض آبائي يشدني إلى الشرق، حيث تشرق الشمس، ويخصب القمر التراب بضوئه الدافئ.”
أجمل ما في فلسفة ميرا، أنها بلا فلسفة. هي بعض روح، بعض روحانية، بعض كشوف يومية، وكأنها تراجع وهي في عزّ قراءاتها، دروس القراءة، للصفوف الإبتدائية. تقول لنا: هنا المبتدا.
” عبرت وأنا أمشي، أمام كنيسة السيدة، المجاورة للدير، وكلاهما أصيبا بأضرار موجعة… اللهم إرحمنا… بحق خدامك المخلصين وألوهتك وأبوتك.”
تتجلى ميرا، وهي تتقدم في سيرتها الذاتية، كما حضرة روحية. حيث تجد فيها كل حاجتها، دون الخروج من دائرتها. ولهذا، تراها تمعن في تقديم نفسها، على أنها، حينما تكون، إنما تكون في الحضرة. إنما تكون في الجلوة. فإذا ما سَألت عن مينرفا، في وجع الجذور ووله النور، تراها تقول لنا على الفور، ترد علينا: فقط. أثبت من أكون.!
فالإثبات لديها، أعظم أمرها. هو المبتدا والمنتهى، من سيرة حياتها كلها!
” وفي إعتقادي، فإن مدينة الله لن تتخلى عن مدينة الأرض… طوبى لمن يلتزم تعاليم المحبة.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين