الجوهرة المشعة
من أين يأتيها كل ذلك الضوء الساحر. كل هذا النور الذي يشع في الساحات. في الأرجاء. يملأ المكان ويجعله أكثر سحرا. وأكثر دفئا. وأكثر إنفتاحا. وأكثر سعة. مصدر طاقة لا تنضب. تجعل الدارة بمساحة وطن خيالي. بمساحة وطن حقيقي. فيه ما لا يوصف، من الجمال ومن البهاء. ومن السقوف والحجرات والأبهاء. ومن تقاليد أهل الصوفة، من النساك والزهاد. ومن تقاليد الأميرات: ينهضن باكرا. يتفقدن المجالس. يصففن المطارح والمقاعد ويحضرن الزوايا. يفردن الأواني والحاجات. الكاسات والمشربيات. هناك جدارية زاهدة. وهناك لوحة مائلة إلى حسنها. وهنالك صف من الشجيرات الحييات بخضرتها وأنساغها الذائبة. تصنعهن بعينيها. بأيديها : أيد من أدب. ومن شعر. ومن فن. ومن إبداع خفر. ذاك الذي لا يقع إلا للريشات الملهمات. شقت صفحة السماء لها. شقت صفحة الفضاء. شقت صدر الشمس في الصباحات وفي العشايا. تأخذ منديلها عند الظهيرة. تستعيره. تحاكيه. تتخايل به ظلالا ولا أرق. كأنها من نسيج الحرير. كأنها من شالات سيدات القصر والسحر. قضين العمر، في مغزل النعمة. في منزل الشكر. وبين أيديهن خيوط النسيمات. وخيوط الغيوم. وخيوط النور. وأنفاس أقوام، ركنوا في كل زاوية، شيئا من الحسن. ثم جلسوا يصوغون الجمال، حللا وكسوة ومناديل، يلوحون بها للأجيال القادمة.
تلك هي خيرات الزين التي تستضيف البساتين والحقول والكروم في دارتها. تستضيف الينابيع والسواقي، كما الغمامات البيضاء، تندى على أجنحة الفراشات، غب كل صباح وكل مساء. غب كل ظهيرة، مشت إليها من جميع الجهات. عبرت بين يديها بلا حساب. بين التي واللتيا.
ليست فصول الحياة كلها للعبور الثقيل. أحرى بها أن تجعلها برهة صغيرة نقية خالدة، بين يدين من حبر وألوان. وأنفاس معطرة بتعب المكابدة. تعب المجاهدة. تعب الإجتهاد. حين تهم باللوحة. وحين تهم اللوحة بها.
تراها قبل إرتفاع شمس قريطم، إصبعة أو إصبعتين، تنزل من دارتها، إلى حارتها. لا تعرف أيتهما الدارة وأيتهما الحارة. سواسية هما، كعينيها. تلمع بالغد الندي، أتى قبل موعده إليها. يرشف قهوته ويغيب في الفضاوات التي صنعتها في محجرين من نار ومن نور. تسكن للثواني تصغي لها. هسيس الدم على الترب، يخضل مرجا ومرجانا. وتحمر جميع العابرات بها مثل طيور. من غمامات. مثل عصافير من شفق. مثل جرار من عسل. مثل وردة. مثل ضمامة ورد مكنفة. منسقة. مثل جوهرة مشعة.
تأخذ نفسا عميقا، حين تدور حبيبات الماء بها. لطالما كانت تفسر مناماتها، على الكاسات الرقيقة. على جدول إنبجست فجأة بين يديها. على ساقية ضاحكة. شاكية. نائحة. باكية. تهدل الحمامات فوقها، حين تجرح بمناقيرها صفحة الماء. ثم تأخذ بالدعاء لها.
رنت للقادمين ساعتها. رنت للسائلين من كل الدروب إليها. رنت للعابرين. رنت لتفاح التحيات، على خدود الصبايا، وهن ينظرن إليها، قبل الدخول إلى القاعات، إلى صفوف الدراسة، عند تخوم حارتها. ضعن على درب قصير بين بابين: باب الحرم الجامعي، وبابة الأدب الجماعي. كن يهمسن. كن يتهامسن. كن ينظرن : أو تلك هي السيدة خيرات الزين. أو تلك هي الجوهرة المشعة، التي تحدثنا عنها؟.
كن منها، على قاب قوسين أو أدنى.
دارة فيحاء، كمنبسط من الزروع. تفسح للآتين من قبل. تفسح للآتين من بعد. ملأى الجعاب بأكمام الأدب الغر. تتفتح أزراره مثل غيمات بريئات. تنشق عن لون وعن عطر. وعن مهج تسيل على سطور ندية، حين ينصرف الجبين يتجعد بالشعر، مثل يم. مثل بحر. مثل موجة فاجأتنا بعطرها. تنهض ربة الدارة إليها، تهدئ من خواطرها. وتمسح عنها مقاساة العيون التي رنت إليها. مقاساة البعاد التي إشتاقت إليها.
كل يوم أنت مدعو لدارتها. تأتي بلا موعد. وتعود حين يأذن الوقت لك. مليء الإهاب، بما سمعت. بما تحدثت. بما تفتح به صدرك. تراه يموج حقلا من القمح. حقلا من الأدب. حقلا من الشعر. حقلا من العطر. ثم يرتسم بين عينيك أفقا وموجا.
كنت تصغي بأسماعك كلها، لحديث الأدب والشعر والفن. يتجاذب الشعراء والنقاد، وأهل الصرف و النحو. وعشيرة كهف العلوم والفنون جميعهم. من حضر منهم، ومن غاب عن مجلسها. فكان يباغتك، من أقصى الركن، أو قل من الركن القصي، أو الأقصى، شعاع ظليل. خفيف الروح: شعاع ينبهك إليه. شعاع نبه إليك، من صوفية، كنت أسميها آن تعرفت إليها ولا أزال: الجوهرة المشعة. جوهرة الملتقى. تلك هي السيدة خيرات الزين. سيدة الملتقى. ملتقى خيرات الزين، الذي ننتدي فيه، ظهيرة كل يوم. أين أنت به. بها!
والتحيات العاطرات لها.!
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين في صورة تذكارية مع الفنانة التشكيلية خيرات الزين ..