من كتاب، “رسائلُ إلى بحّارٍ ورسائلُ أخرى” للكاتبة التونسيّة سليمى السرايري، هذه الرسالة إلى اَلشَّاعِر عبد الحكيم ربيعي …
رسالة 82
صَدِيقِي الحكيم ،
مَازِلْنَا هُنَا، نُرَوِّضُ أَنْفُسَنَا وَنُحَاوِلُ اَلتَّعَوُّدَ عَلَى أَصْدِقَاءَ جَاءَتْ بِهِمْ إِلَيْنَا اَلشَّبَكَةُ اَلْعَنْكَبُوتِيَّةُ رُبَّمَا وَجَدْنَا فِيهِمْ بَعْضَ مَا نَصْبُو إِلَيْهِ مِنْ فَرَحٍ أَوْ بَعْضَ اَلْجَمَالِ اَلَّذِي تَلَاشَى عَلَى اَلْبَسِيطَةِ، وَرُبَّمَا أَيْضًا وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا فِي وَرْطَةٍ لَذِيذَةٍ وَلَمْ نُعُدْ نَعْرِفُ بَوَّابَةَ اَلْخُرُوجِ.
وفِي فُسحَةِ الوَقْتِ، أَلِجُ نُصُوصَكَ فَأَسْمَعُ تَنْهَيدَةً غَائِرَةً وَأَرَى كُلَّ تِلْكَ اَلْمَسَافَاتِ اَلَّتِي تَحْمِلُهَا فِي دَاخِلِكَ، فَأَنْتَ، دَوْمًا تَمْلَأُ اَلْأَمْكِنَةَ وَالقُلُوبَ بِالْحُبِّ وَالْوِدِّ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، فَيُعَشِّشُ اَلْيَمَامُ عَلَى قَارِعَةِ اَلطَّرِيقِ وَأُدْرِكُ تَمَامًا أَنَّكَ مَا زِلْتَ تَمُدُّ يَدَيْكَ بِالْمَحَبَّةِ وَالسَّلَامِ فَنَتَعَلَّمُ مِنْكَ كَيْفَ نَسُدُّ اَلثُّقُـوبَ اَلَّتِي تَأْتِي مِنْهَا الرِّيحُ وَالْأَمْوَاجُ اَلْمَالِحَةُ.
وَتَحْمِلُنَا اَلطُّرُقُ إِلَى اَلْفَرَاغَاتِ أَحْيَانًا، دُونُ أَنْ نَدْرِي رُبَّمَا فِي غَمْرَةِ وَجَعِ مَا، شُرُودٍ مَا، فَرْحَةٍ، فِكْرَةٍ، غَضَبٍ، وَفِعْلًا تَسْرِقُنَا تِلْكَ اَلْخُطَى نَحْوَ الفَراغِ، نُحَدِّقُ فِي اَللَّحْظَةِ الآتِيَةِ بِلَا انْتِظَارٍ.
هُوَ اَلْعَقْلُ اَلْبَاطِنُ اَلَّذِي يُسَيِّرُنَا فَنُغْمِضُ عُيُونَنَا عَلَى ذِكْرَيَاتٍ كَثِيرَةٍ، ووُجُوهٍ نَشْتَاقُ إِلَيْهَا…
هَمَسَاتٌ كَانَتْ يَوْمًا تُدَغْدِغُ حَوَاسَّنَا أَصْبَحَتْ اَلْآنَ أَشْجَارًا تَكْبُرُ فِي اَلْقَلْبِ وَتَمُدُّ أَغْصَانَهَا خَارِجَ قَبْضَتِهِ.
وَأَنْتَ كُتْلَةُ ضَوْءٍ، حُزْمَةُ هَوَاءٍ تَغْفُو أَيْنَمَا يَحْلُو لَكَ، وَوَجَعُكَ وَالشُّحُوبُ اَلْحَزِينُ بَيْنَ سُطُورِكَ لَيْسَا إِلّا تِلْكَ اَلْأَحَاسِيسُ اَلشَّفِيفَةُ اَلَّتِي تَغْمُرُكَ حَدَّ اَلْغَرَقِ وَأَنْتَ عَاشِقُ اَلْبَحْرِ.
هَكَذَا أَدْخُلُ رِحْلَاتِكَ اَلْبَحْرِيَّةَ هُنَاكَ دَاخِلَ سِيرَةِ اَلْمَاءِ، تَتَقَاطَرُ مُوسِيقَى رُومَانْسِيَّةٌ شَدِيدَةُ العُذُوبَةِ، تَتَنَاسَقُ وَتَتَعَانَقُ عَلَى امْتِدَادِ اَلْأَزْرَقِ اَلْعَظِيمِ، بَيْـنَ اَلْمَدِّ وَالْجَزْرِ، وَاَلرِّيحِ وَالْمَطَرِ، وَالْأَشْجَارِ اَلْعَارِيَةِ، تَكْمُنُ حَقِيقَةُ قَلْبِكَ اَلنَّابِضِ بِالْحُبِّ.
نَحْنُ يَا صَدِيقِي لَسْنَا سِوَى أَطْفَالٍ نَرْفُضُ اَلْإِقَامَةَ دَاخِلَ مَتَاهَاتِ اَلْأَرْوِقَةِ اَلضَّيِّقَةِ، فَنَتَّخِذُ مِنْ اَلطَّبِيعَةِ مَلْجَأً وَمَلَاذًا، وَمِنْ اَلْبَحْرِ صَدِيقًا كَتُومًا يَحْمِلُ فِي جَوْفِهِ كُلَّ شَكْوَانَا وَمُنَاجَاتِنَا وَحَتَّى غَضَبَنَا وَسُخْطَنَـا عَلَى زَمَنٍ تَيَبَّسَتْ فِيهِ مَشَاعِرُ اَلْإِنْسَانِ.
طِفْلٌ كَبِيرٌ أَنْتَ يَا صَدِيقِي، مَا زِلْتَ تَحْمِلُ بَيْنَ يَدَيْكَ قَوَارِبَ اَلْوَرَقِ اَلْمُلَوَّنِ وَقِطَعِ اَلْحَلْوَى وَتُرْسِلُ أَسْنَانَ اَلْمَوْجِ إِلَى تِلْكَ اَلشَّمْسِ هُنَاكَ فِي اَلطَّرَفِ اَلْآخَرِ مِنْ اَلْبَحْرِ.
أَنْتَ رَجُلٌ حَكِيمٌ، شَاعِرٌ، وَحَبِيبَتُكَ تَرْكُـضُ بَيْنَ سُطُورِ قَصَائِدِكَ اَلَّتِي تُشْبِهُ زُرْقَةَ اَلطَّبِيعَةِ وَرَوْنَقَهَا غَيْرَ أَنَّهُ تَنْبَعِثُ مِنْهَا سِيمْفُونِيَاتُ “نِيْنَوَى” اَلشَّجِيَّةُ فَأَتَسَاءَلُ:
لِمَاذَا يَكْمُنُ حُزْنٌ عَمِيقٌ فِي كُلِّ حُرُوفِكَ؟
لَا تَحْزَنْ يَا صَدِيقِي، فَحَبِيبَتُـكَ ضَاحِكَةٌ رَاقِصَةٌ عَاشِقَةٌ لِهَذَا اَلطِّفْلِ اَلْكَبِيرِ اَلْمَلِيءِ بِعُذُوبَةِ اَلتَّفَاصِيلِ.
كَيْفَ يَعُودُ المَكَانُ إِلَى مُدُنِ اَلْعِشْقِ مُشْرِقًا وَقَدِ اتَّسَعَتْ كُلُّ اَلْحَوَاسِّ وَتَجَرَّدَ اَلْحُزْنُ مِنْ يَبَاسِهِ وَأَصْبَحَ اَلْكُلُّ يَسْمُو فِي وَحْشِيَّةٍ لَذِيذَةٍ؟
لَا أَحَدَ يُنْكِرُ أَنَّكَ تَرْسُمُ لَوْحَاتٍ عَمِيقَةً خَضْرَاءَ تَنْبَعِثُ مِنْهَا، رَائِحَةُ اَلْأَرْضِ وَوَشْوَشَات سَنَابِلِ اَلْقَمْحِ، نَسْمَعُ هَسِيسَ اَلْمَطَرِ وَحَرَائِقَ اَلْمَاءِ تَحْتَ ضَرَبَاتِ اَلشَّمْسِ، فَفِي رُوحِكَ اَلْجَذْلَى، أَحْلَامٌ تَرْقُصُ، وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ تَعْرِفُ مَتَى تَجْعَلُ مَوَاسِمَ اَلْحَصَادِ مَشْرُوعَةً.
فَهَلْ هِيَ قِصَّةُ حُبٍّ تَتَهَادَى فِي رِدَاءِ مُخْمَلِيٍّ حِينَ يَصْمُتُ اَلنَّهَارُ وَيَتَوَارَى خَلْفَ اَلْهِضَابِ وَلَا يَبْقَى سِوَى لَيْلٍ كَتُومٍ تُسَبِّحُ أَرْوِقَتُهُ لِعُشَّاقٍ بَارَكَتْهُمْ شَجَرَةُ اَللَّوْزِ؟
هُوَ اَلْحَنِينُ إِذَنْ، يَعْصِفُ بِمَشَاعِرِكَ فَتَطْوِي اَلْمَسَافَاتِ اَلْفَاصِلَةَ بَيْنَ اغْتِرَابِكَ وَعِشْقِكَ وَوَحْدَتِكَ أَنْتَ فَقَطْ مِنْ يَعْرِفُ كَيْفَ يَشُدُّنَا إِلَى عَالَمِهِ اَلرَّقِيقِ فَنَلْمَحُهُ يُشَكِّلُ مِنْ أَصَابِعِهِ فُرْشَاةً وَمِنْ ذِكْرَيَاتِهِ أَلْوَانًا لِيَرْسُمَ، مَلَامِحَ أُنْثَى جَمِيلَةٍ رَاسِخَةٍ فِي اَلذَّاتِ.
وَبَيْنَ غُرْبَتِكَ وَالْحَبِيبَةِ اَلَّتِي تُطِلُّ عَلَى وَجَعِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ، خَلَقْتَ لِنَفْسِكَ طُقُوسًا مُتَفَرِّدَةً، فَجُلْتَ فِي تِلْكَ اَلْفَضَاءَاتِ، وَتَحَوَّلَتْ أَنَّاتُـكَ إِلَى عَطَشٍ وَشَوْقٍ حَـدَّ اَلْبُكَاءِ.
حَنِينُكَ إِلَى حَبِيبَةٍ عَبَّأَ تِلْكَ الْفَرَاغَاتِ اَلَّتِي فَرَضَتْهَا عَلَيْكَ عَوَامِلُ كَثِيرَةٌ.
هُنَاكَ أَمَلٌ فِي اَلْأُفُقِ، رَغْمَ اَلْحُلْمِ اَلْمَنْسِيِّ فِي زَوَايَا مَنْسِيَّةٍ بِدَوْرِهَا. أَنْتَ يَا شَاعِرِي، تَعْرِفُ كَمْ أَطْلَقَتْ حَوَاسُّكَ مِنْ أَجْنِحَةٍ لِتَطِيرَ بِهَا نَحْوَ ذَلِكَ اَلْعَالَمِ اَلْأُنْثَوِيِّ، غَيْرَ أَنَّ اَلْفَرَسَ اَلْمُسْرَجَةَ مَا زَالَتْ وَاقِفَةً فِي نَفْسِ اَلْمَكَانِ وَالْفَرَحُ يَتَرَاقَصُ وَيَتَمَايَلُ عَلَى إِيقَاعَاتِ نَبْضِكَ لِحَبِيبَةٍ مِنْ ضَوْءٍ وَمَطَرٍ.
حَتْمًا هُنَاكَ فُسْحَةٌ لِصَلَاةٍ جَدِيدَةٍ، لِأَمَلٍ مُتَجَدِّدٍ، لِحُبٍّ لَنْ يَزُولَ. حُبٌّ قُدَّ مِنْ نَبَضَاتِ اَلرُّوحِ.
هَا هِيَ اَلشَّمْسُ تَتَزَاحَمُ فِي اَلْأَلْوَانِ اَلْخَلْفِيَّةِ، أَلْمَحُـكَ هُناكَ، تَخْرُجُ مِنْ حَبَّةِ مَطَرٍ، نَهْرًا مُتَدَفِّقًا وَتَكْتُبُ بِمِدَادِ اَلْقَلْبِ لُغَةً لَا تُشْبِهُ سِوَى اَلْأَنَاشِيدِ اَلْقَدِيمَةِ فِي كَنِيسَةٍ ” كَاثُولِيكِيَّةٍ ” تُعَانِقُ فِيهَا اَلْعُيُونُ أَجْمَلَ لَوْحَاتِ اَلْحُبِّ
وَكَأَنَّ “فِينُوسْ” عَادَتْ مِنْ جَدِيدٍ لِتَرْقُصَ عَلَى ضِفَافِ حُرُوفِكَ وَكَلِمَاتِكَ اَلَّتِي تُشْبِهُ صَلَوَاتٍ امْتَدَّ سَجَّادُهَا إِلَى آخَرِ اَلْكَوْنِ.
هَكَذَا أَقَامَتْ حَبِيبَتُكَ صَلَاةَ اَلْعُبُورِ إِلَى أَمَاكِنَ عُلْوِيَّةٍ فَسَمَوْنَا مَعَكَ نَرْتُـقُ اَلْأُفُقَ بِالسَّمَاءِ فيَتَعَطَّـرُ اَلْكَوْنُ بِأَرِيجِ اَلنَّرْجِسِ لِتَبْدُوَ اَلشَّمْسُ أَكْثَرَ خَفْرًا.
يُعْجِبُنِي امْتِدَادُكَ اَلْأَزْرَقُ يَا صَدِيقِي وَهُوَ يُشْرِقُ مِنْ سِلَالِ اَلسَّمَاءِ.
الشاعر عبد الحكيم ربيعي مع الشاعرة سليمى السرايري