مغادرة اللاعبين
يستيقظان باكرا مثل فريق التنس. يستعرضان الصالة. كل الأشياء في البيت، هي للقذف بينهما، بلا قواعد. بلا قاعدة.
الأرائك هي للقذف بينهما. أيها يصيب وجه الآخر، فيتعالى الضحك. وتتعالى الشماتة بالخصم. فيأتي الرد المفاجئ، بما هو تحت اليد: دفاتر وأقلام ووسائد. وكتب مهملة ومجلات، وعلب المحارم الورقية. وفوط ومناشف ومحفظة مليئة بالتذاكر. ومناديل مطرزة للطاولات وللتلفزيون. ومسطرات وعلب أدوية مهملة، وجعب صغيرة، عبوات للماء، خفيفة. جميعها تنزل إلى أرض الصالة، من فوق ومن تحت. وعن يمين وعن شمال. ومن قدام. ومن خلف.
عاصفة تتطاير في الصالة، ثم تدلف إلى الممرات. إلى المطبخ إلى غرف النوم. يحلو اللعب بأشياء البيت على “السكيت”، حتى لا تستيقظ الجدة، في غياب الجد، خرج باكرا. تأكدا من خروجه، من باب غرفة النوم المشقوق، كحرف لا. ومن توقف السعال وحكاك الحنجرة، مع تنفس الصباح. ومع التحسس المباغت، لجرعة من أنسام الهواء المفاجئ، من مروحة أو من مكيف، فاجأته الكهرباء، فعاد يلطف الأجواء، بالغبار البارد، وينشط الأولاد: يأذن لهما باللعب الباكر.
آه ما أجمل البيت، حين يطل الصباح وتشرق الشمس، ويعرك الصغيران، الأعين من رماد النوم. ويقفزا فجأة إلى ملعبهما في صالة البيت. يرميان كل ما تصل إليهما أيديهما على الوجه وعلى الأرض. وربما وجدتهما فجأة، ينتحيان كل على أريكته التي إعتادها. وبين اليدين، الهاتف الذكي، الذي يفهم منهما “على الطاير”. فيأتيهما بالألعاب الرشيقة والأنيقة والجاذبة. ويمضيان السويعات في ظل سكينة معتادة، حين تخرج الكهرباء عن السلك، وتتوقف الحركة، ويعم الهدوء كل شيء. وترين السكينة. يهدأ الوقت عن الزحف.
وحين يضرب الجوع بطون الصغار، تسمع فقش أكياس الشيبس. واحد لفلق البطاطا وآخر لدقيق الفستق. واحد مملح مع الخل. والآخر بطعم الشحطة والحر. ثم تتطاير قطع التفاح وقشر الموز. ويصير اللعب، بعبوات الماء، على حنفية الثلاجة، حيث المورد العذب. وحيث الصراع على الماء، كعادة القرويات الحسناوات على مزراب العين.
تجفل الجدة في مرقدها، على أثر خبطة قوية. دخل الصغيران في إشتباك مفاجئ بالأيدي. وعلا الصياح بينهما. وبكى أحدهما بركلة إستباقية، فإستلقى على أثرها، يتوجع على السكت، حتى لا تستيقظ الجدة. وحتى تمر الحادثات، بلا آثار جانبية. وبلا توبيخ وبلا قصاص. وبلا عذاب النفس.
البارحة، غادر اللاعبان. إستقلا الطائرة وحدهما. خرجا إلى المدرسة البعيدة. وفي ظهرهما حقيبة ملأى بالألعاب والأوراق والذكريات والكتب. غصت الصالة. بكت. أجهشت. إختنقت الممرات. كان الندى يساقط من السقف. لا تزال الضحكات عالقة على الجدران البيضاء. ولا تزال الأرائك تحبس الأنفاس. خشيت على نفسها من غصص الفراق.
مغادرة اللاعبين، ظهر الثلاثاء:27/8/2024 تقطع الأنفاس. كانا يلتفتان إلى الجدة والجد، مثل أرنبين فزعين. كان جمال البكاء والعناق، والتمسك بالأذيال والتمسح بالأثواب، لمما يفت الملح في الأكباد. لمما يفت الملح في الجرح.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين