دراسة نقدية للناقد احمد الكاتب
في قصيدة ” إلَى الفَرَاشَاتِ التَّائِهَةِ” للشاعرة التونسية سليمى السرايري
نص ” الإهداء” للشاعرة سليمى السرايري
إلَى الفَرَاشَاتِ التَّائِهَةِ
سَأُزَيِّنُ لَيَالِينَا بِبَعْضِ الْأَلْوَانِ
وَأَرْسُمُ عَلَى أَخَادِيدِ التَّمَنِّي قَبْلَةً لِلْفِرَاشِاتِ التَّائِهَةِ.
لَنْ أَتْرُكَ اللَّيْلَ بِلَا نَجْمَةٍ
وَلَنْ أَجْعَلَ الْمَوَاعِيدَ تَمُرُّ دُونَ أُغْنِيَةٍ،
تِلْكَ الْمَوَاعِيدُ الطَّاعِنِةُ فِي الشَّوْقِ
وَتِلْكَ الضَّحَكَاتُ الدّافِقَةُ بالاشْتِهَاءِ
أَنَا فَقَطْ مِنْ قَرَّرَتْ أَنْ تُعِيدَ لِلْأَزْهَارِ رَحِيقَهَا
كَيْ تُرْوَى الْفَرَاشَاتُ مِنْ مَنَابِعِ الشَّمْسِ
وَتَتَأَنَّقَ كَحَوَرِيَّاتِ الصَّبَاحِ.
سليمى السرايري
…………….
تونس – كتب أحمد الكاتب :
في نص “الإهداء”، تتجلى شخصية الراوية كمبدعة حساسة تسعى إلى إعادة الجمال والبهجة إلى عالمها. إن استخدام الفراشات كتجسيد للتيه والضياع يُعبّر عن حالة من البحث عن الذات والهوية. الفراشات تُصور ككائنات تبحث عن طريقها وسط ظلام الحياة، والراوية هنا تأخذ على عاتقها مهمة إرشادها وإعادة الألوان والأغاني إلى لياليها.
تحليل الشخصيات:
- الراوية (الذات المبدعة) :
شخصية الراوية تظهر كشخصية قوية وحساسة في آنٍ واحد. تحمل في داخلها قدرة على الإبداع وإعادة تشكيل الواقع من خلال الفن والشعر. هي التي قررت أن تعيد الحياة إلى الفراشات التائهة، مما يعكس رغبتها في نشر الجمال والإيجابية في مواجهة التيه والضياع. - الفراشات التائهة :
الفراشات تمثل النفوس الضائعة التي تبحث عن نور وهداية وسط ليلٍ طويل. هي رمز للضعف والبحث عن اتجاه، والراوية هنا تأتي لتمنحها القوة والأمل من خلال إعادة الحياة واللون إلى عالمها. - الليل والمواعيد :
الليل في النص يمثل حالة من الغموض والتحدي، لكنه ليس مطلقًا؛ إذ تسعى الراوية إلى ملئه بالنجوم والأغاني. المواعيد، التي وصفت بأنها “طاعنة في الشوق”، تشير إلى لحظات الانتظار والترقب التي تمر في حياة الإنسان، وتؤكد على أهمية ملء هذه اللحظات بالفن والجمال.
الإضاءة على الجوانب الفنية :
النص مليء بالصور الشعرية الحية التي تعزز من المشاعر والرموز الموجودة فيه. استخدام الألوان، الزهور، والرحيق يعكس محاولة الراوية لإضفاء جمالٍ وبريقٍ على كل ما هو باهت وضائع في حياتها وحياة الفراشات. التركيز على الشمس كمنبع للنور والجمال يعكس رغبتها في التواصل مع مصدر للحياة والطاقة، مما يعزز من الإيجابية التي تحملها.
الخلاصة :
شخصية الراوية في هذا النص تتجلى كفنانة عازمة على تحويل الضياع والتيه إلى جمالٍ ونور. النص يعكس رحلة البحث عن الذات ومحاولة إعادة صياغة الحياة من خلال الفن، كما يُظهر التفاعل الحساس بين الراوية وعالمها، وكيف تسعى لإضفاء بصمتها الخاصة على هذا العالم.
النص يُظهر براعة بلاغية متقدمة من خلال استخدامه الدقيق للصور الشعرية، والاستعارات، والتشبيهات. كل كلمة وكل عبارة مختارة بعناية لتعبر عن عاطفة معينة أو فكرة محددة، مما يخلق تأثيرًا قويًا على القارئ. إليك أبرز الجوانب البلاغية في السياق:
- الاستعارة والتشبيه :
- النص مليء بالاستعارات، حيث يتم تشبيه الفراشات بالنفوس التائهة، والليل بالظلام الذي يتطلب إضاءته بالنجوم. هذه الاستعارات ليست فقط زينة لغوية، بل تعمل على تعميق الفهم والارتباط العاطفي مع النص.
- استخدام “أخاديد التمني” كتشبيه يعكس العمق الذي تحمله الأمنية في النفس البشرية، وكأنها محفورة في الروح.
- التكرار من أجل التأكيد :
- تكرار الأفعال مثل “سأزين” و”أرسم” يعزز من تصميم الراوية على إحداث التغيير في العالم من حولها. التكرار هنا ليس مجرد إعادة للألفاظ، بل هو تأكيد على الفعل والإصرار على التغيير.
- التضاد :
- النص يستفيد من التضاد بين النور والظلام، وبين التائه والمُرشد، ليبرز أهمية الأمل والجمال في مواجهة الضياع. هذا التضاد يعزز من التأثير العاطفي للنص ويعطيه قوة تعبيرية.
- التصوير الحسي :
- النص يستعين بتصوير حسي مكثف من خلال الألوان، النجوم، الأغاني، والرحيق. هذه الصور تجذب حواس القارئ وتجعله يعيش التجربة الشعورية للنص، حيث يمكنه أن يتخيل الألوان والأصوات والروائح وكأنه جزء من هذا العالم الشعري.
- التوازي الصوتي والوزن :
- النص يتميز بتوازن صوتي ووزني يُضفي عليه موسيقى داخلية، مما يجعله ممتعًا للقراءة بصوت عالٍ. هذا التوازي يعكس قدرة الشاعرة على خلق توازن بين المعنى والصوت، مما يُضفي على النص طابعًا احتفاليًا وشعريًا.
- الالتفات :
- هناك استخدام واضح لفن الالتفات في الانتقال بين الحديث عن الفراشات وبين التعبير عن فعل الراوية في تزيين الليالي وإعادة الرحيق. هذا التنوع في الضمائر يضفي حيوية على النص ويعكس تنقلات الراوية بين عوالم مختلفة.
الخلاصة:
بلاغة السياق في هذا النص تتمثل في استخدام الصور الشعرية والاستعارات بكثافة وفاعلية، مما يعكس قدرة الشاعرة على التعبير عن مشاعرها وأفكارها بشكل مبتكر وجذاب. النص يتجلى كتجربة حسية كاملة بفضل توظيفه للعناصر البلاغية التي تساهم في تعميق المعنى وإثراء القراءة.
النقد البنيوي :
النقد البنيوي يركز على تحليل النص كهيكل متكامل، مستقل عن السياقات الخارجية أو القصد الشخصي للكاتب، ويعنى بدراسة العلاقات الداخلية بين عناصر النص المختلفة. في نص “الإهداء” لسليمى السرايري، يمكن تطبيق النقد البنيوي عبر التركيز على البنية اللغوية، الدلالات، والتراكيب النصية.
- التماسك النصي :
- النص يتميز بتماسك داخلي واضح؛ حيث ترتبط كل أجزاءه بموضوع واحد هو “إعادة الجمال والبهجة للحياة”. العبارات متسلسلة بشكل يجعل النص يبدو وكأنه وحدة متكاملة، مما يعزز من قوة الرسالة التي يريد إيصالها.
- 2 التكرار كعنصر بنيوي :
- التكرار في الأفعال والصور، مثل “سأزين” و”أرسم”، يلعب دورًا مركزيًا في بناء النص. هذا التكرار لا يعمل فقط كأداة بلاغية، بل أيضًا كبنية أساسية تُبنى عليها الفكرة المحورية للنص، وهي إحياء الحياة من خلال الجمال والفن.
- التباين والتضاد :
- هناك تباين ملحوظ بين الظلام والنور، التيه والهداية، الصمت والأغنية. هذه الثنائية تخلق توترًا داخليًا في النص، مما يساهم في بناء معناه وتعميق الرسالة. النص يستفيد من هذا التباين لخلق نوع من الصراع الضمني الذي يعطي النص بعدًا إضافيًا.
- البنية الزمنية :
- النص يلتزم بزمن مستقبلي يتمثل في استخدام الأفعال المستقبلية “سأزين” و “لن أترك”. هذا البعد الزمني يضع القارئ في حالة من الترقب والتطلع إلى المستقبل، مما يجعل النص مفتوحًا على احتمالات متعددة ويضفي عليه ديناميكية.
- التناص الداخلي :
- هناك تناص داخلي في النص، حيث تتداخل الصور والأفكار مع بعضها البعض لتخلق وحدة متكاملة. على سبيل المثال، ارتباط الفراشات بالليل، والليل بالنجوم، كلها ترتبط بطريقة تجعل النص يبدو وكأنه شبكة من المعاني المترابطة التي تغذي بعضها البعض.
- الغموض كعنصر بنيوي :
- الغموض في النص ليس فقط نتيجة استخدام الرمزية بل هو جزء من بنيته الأساسية. هذا الغموض يجعل النص مفتوحًا للتأويلات المتعددة، وهو ما يمنح النص عمقًا ويزيد من تعقيد بنيته.
الخلاصة:
من خلال النقد البنيوي، يتضح أن نص “الإهداء” لسليمى السرايري يعتمد على بنية معقدة ومتعددة الطبقات. التكرار، التباين، والغموض ليست مجرد أساليب بلاغية، بل هي عناصر بنيوية أساسية تسهم في تشكيل النص ككل. النص يحقق تماسكه من خلال ترابط أجزائه الداخلية وتفاعلها المستمر، مما يجعله وحدة نصية متكاملة تحمل معنى أعمق مما يظهر على السطح.
التحليل النفسي :
يهدف التحليل النفسي إلى استكشاف الأعماق النفسية للكاتب وشخصيات النص، والتعرف على الدوافع الداخلية واللاواعية التي تؤثر على السلوك والمشاعر المعبّر عنها في النص. من خلال هذا المنظور، يمكن تحليل نص “الإهداء” لاكتشاف الأبعاد النفسية التي تحرك الراوية وتنعكس في اختياراتها الفنية والتعبيرية.
- البحث عن الذات والهوية :
- يظهر النص كرحلة بحث عن الذات من خلال استعارة الفراشات التائهة، التي يمكن أن تكون تمثيلاً لحالة الضياع النفسي التي تعيشها الراوية. الفراشات، برمزيتها ككائنات تبحث عن الضوء، تعبر عن نفس تائهة تسعى لاكتشاف نفسها وإيجاد طريقها في الحياة. هذا البحث يعكس رغبة داخلية في تحقيق التوازن والانسجام بين الداخل والخارج، بين الذات والواقع.
- إعادة البناء والإصلاح النفسي :
- الراوية تقوم بدور “المصلح” أو “المعالج”، حيث تتعهد بإعادة الجمال والبهجة إلى العالم من حولها. هذا السلوك يمكن تفسيره كنوع من محاولة السيطرة على الفوضى الداخلية وإعادة ترتيب العالم الخارجي بما يتناسب مع احتياجاتها النفسية. إن إصلاح “الليل” وملء “المواعيد” بالأغاني يعكس رغبتها في التخفيف من المشاعر السلبية، مثل الخوف والضياع، من خلال تحويلها إلى شيء إيجابي وجميل.
- الرغبة في السيطرة والتحكم :
- هناك عنصر من الرغبة في السيطرة على البيئة المحيطة في النص، حيث تظهر الراوية كمن يتحكم في الليل، الأغاني، الأزهار، والفراشات. هذه السيطرة قد تعكس حاجة نفسية للسيطرة على ظروف الحياة غير المؤكدة، ومحاولة لإيجاد إحساس بالتحكم في عالم يبدو أنه يخرج عن السيطرة.
- الهروب من الواقع :
- الصور الجميلة والألوان والموسيقى التي تستخدمها الراوية قد تعكس محاولة للهروب من الواقع القاسي أو المؤلم. من خلال تحويل الليل إلى مشهد جمالي، تحاول الراوية خلق واقع بديل تستطيع من خلاله مواجهة مخاوفها أو مشاعرها المكبوتة. هذا الهروب يمكن أن يكون دلالة على رفض مواجهة مشكلات حقيقية في الحياة، وتفضيل الانغماس في عالم خيالي مثالي.
- الحاجة إلى الحب والقبول :
- إعادة الرحيق للأزهار كي ترتوي الفراشات قد تكون تعبيرًا عن حاجة الراوية إلى الحب والقبول. الفراشات التي تبحث عن النور قد تمثل رغبتها الداخلية في أن تكون محبوبة ومقبولة من الآخرين. هذه الرمزية تعكس حاجة نفسية عميقة للشعور بالأمان والتواصل مع الآخرين.
الخلاصة:
نص “الإهداء” لسليمى السرايري يحمل في طياته أبعادًا نفسية معقدة تعكس حالة من البحث عن الذات، الرغبة في السيطرة على الحياة، ومحاولة الهروب من الواقع القاسي. الراوية تبدو كفنانة تحاول من خلال إبداعها أن تعيد بناء عالمها النفسي، وتجد في الجمال والفن وسيلة لمواجهة مشاعر الضياع والبحث عن الحب والقبول.
النص يعكس صراعًا داخليًا بين الرغبة في التغيير والهروب من الحقائق، مما يجعله غنياً بالدلالات النفسية العميقة.
احمد الكاتب
الشاعرة سليمى السرايري