الطوباوي إسطفان الدويهي كتابا
في البركة الرسولية التي تصدرت الكتاب، يقول نيافة البطريرك بشارة بطرس الراعي:
” إن نشر الكتاب في هذا الوقت بالذات، يتلاءم مع المناسبة. إذ يتوافق مع مسيرة تطويب البطريرك إسطفان الدويهي الجارية في مجمع القديسين في روما الذي، بعد إعلان بطولة فضائله في ٣ تموز٢٠٠٨، يعنى حاليا بدرس ” أعجوبة تمت بشفاعته”.
إن مضمون الكتاب، المتطابق مع عنوانه يبين تماما مسيرة البطريرك إسطفان الدويهي وتمثيله للمارونية في أصالتها المثلثة: الإنطاكية السريانية، والخلقيدونية المتحدة بكرسي روما، واللبنانية المنفتحة على العالم العربي….
إن المؤلف، الذي نعرفه تمام المعرفة… قد كرس قسما مهما من نتاجه الأكاديمي للبطريرك إسطفان الدويهي… والآن تتويجا لنتاج البروفسور طانيوس نجيم في السابق يظهر هذا الكتاب ميزات البطريرك إسطفان الدويهي الشخصية بنوع خاص، وميزات البطريركية المارونية بوجه عام، وهي: التمثيل الشرقي الأصيل، والإنفتاح التحديثي على الغرب، والإلتزام بالكثلكة، والإندفاع الحيوي في خدمة القضية اللبنانية.”
يقع الكتاب في ثلاثة أقسام. وكل قسم يحتوي على ثلاثة فصول. بالإضافة إلى المقدمة الأولى، بقلم السفير خليل كرم، رئيس الرابطة المارونية. ومقدمة عامة، مهد بها المؤلف لعمله المكثف، والذي يتناول موضوعات تاريخية شيقة ودقيقة، من حياة البطريرك الطوباوي، إسطفان الدويهي.
تحدث المؤلف أولا عن إلتزام الدويهي والتراث الماروني، فأبان في الفصل الأول عن وجوه الإستعدادات التي أحاطت به في ظروف النشأة والإنتماء، إلى عائلة الدويهيين، وإلى بلدته إهدن في لبنان الشمالي، وإلى التنشئة التمهيدية في مدرسة القرية. وكيف أنه نال إعجاب مدرسيه، فتم إختياره كمرشح لإستكمال الدراسة في روما، حاملا على جبينه الطابعين الشرقي والغربي.
وقد فصل الكاتب، الكلام في الشفاء العجائبي الذي ناله وفي تميزه الأخلاقي والروحي. رافضا كل العروض الجاذبة لبقائه في أوروبا والعمل فيها. وقد جعل غاية همه أثناء الدراسة، البحث عن الوثائق التي تتعلق بالشرق في روما، صارفا إهتمامه كله للبحث عن التراث الشرقي، والمصادر المعينة له. والموارد التي كانت تمثل غاية همه منها.
وكشف الباحث أيضا، عن تعزيز البطريرك الدويهي الرعوي للتراث في جميع كتاباته وأعماله، إن من خلال الخدمة الرعوية،أو من خلال الإهتمام برعية بلدتي: جعيتا في كسروان، وبلدة أردة في شمال لبنان بالقرب من زغرتا، و التي تطل عليها، بلدته إهدن . وقد فصل الحديث عن تلبية البطريرك لرسالتين قام بهما في حلب. وكان في ذلك يتمتع بمسيرة فيها من الصلابة والثبات، ما يجعله يتخطى جميع العقبات. وجميع الصعوبات. بالإضافة، إلى الحماسة القوية في نفسه، التي كانت تلح عليه بالدعوة إلى السلام، والإتحاد مع أبناء الرسالة، في روما وفي لبنان.
وقد بدا البطريرك في مسيرته كلها، كمثال نمطي لمبشر معبر عن التراث الماروني، وذلك من خلال رفض القيام برسالة في الهند، لأنه لا يتقن اللغة الهندية، ومن خلا إستجابته الإيجابية للإيثار الإلهي، ومن خلال تعزيز التراث بالمثالية الروحانية والأخلاقية، من حيث هو رجل الله ورجل الصلاة، والمتأمل في الكتاب المقدس. والزاهد المتقشف الرافض لجميع أشكال الفساد. تستحثه شفافية روحانية وأخلاقية، وتراث عميق من البطولة والقداسة والممارسات المفعمة بالمحبة الإجتماعية. حادبا ليله ونهاره عل تنمية الإحساس بالعدالة وتنمية التراث الروحي في التواضع والكرامة، حتى بلوغ المثالية المطلقة.
التراث الشرقي، في كتابات نيافة البطرك الدويهي، كان العنوان العريض، لمجموعة من الأبحاث، إتصلت بهذا الموضوع، وعبرت عنه بكثير من التفصيل الشيق. تناول الباحث مثلا، التراث التاريخي عند نيافته، والذي جعله يركز أولا بأول، على التاريخ الماروني. مقدما مادة شيقة، عن أصل الموارنة في تاريخ إنطاكية ولبنان، دافعا التهم والشبه، التي طالتهم إلى أصحابها، متوقفا عند الإحتجاج الذي كان قد أثير، عن الملة المارونية، بين الملل المسيحية الأخرى. لينتقل بعد ذلك، للحديث عن سلسلة بطاركة الطائفة المارونية حتى زمانه، وكذلك ليشرح للمتابع، تاريخ المدرسة المارونية في روما، فيقدم مادة شهية معبرة، عن الخدمات التي كانت تقدمها هذة المدرسة للغرب، وللشرق على حد سواء. ويفيدنا الباحث أيضا، عن أن نيافته، كان قد عمل على تحرر مختصر التاريخ المقدس، بالإضافة إلى وضعه كتيبا يتضمن الجدل اللاهوتي الذي كان يثار ضد اليعاقبة. منتهيا في الحديث عن التاريخ الماروني، بالحديث عن تاريخ مقدمي جبة بشري بين عامي(١٣٨٢-١٦٩٠).
وقد أثار هذا الموضوع في نفس المؤلف مكامن شجية، ليتابع نيافته، في بحوثه الشتى عن التاريخ العام وعن تاريخ الأزمنة. ولا ينسى أن يتحفنا بنصين هامين للبطرك الدويهي، إنتخبهما من كتابه الموسوعي: تاريخ الأزمنة.
وتحت عنوان التراث الليتورجي، نجد مادة لاهوتية عظيمة، كانت تشغل بال نيافته. أماط الباحث اللثام عنها، مثل الحديث عن المنائر العشر، وعن منارة الأقداس. وكذلك عن كتاب الشرطونية وشرحها، خصوصا ما إتصل منها بالسريانية. ولا يتوانى الباحث في متابعة نيافته، وهو يهتم بتفاصيل دينية كثيرة، مثل شرح التكريسات المقدسة، وكتاب النوافير السريانية، وقصص الآباء المجيدين والأعياد الدينية بتقاليدها المتبعة منذ ذلك الحين. ناهيك عن متابعة نيافته في جميع الكتب والكراسات التي حررها بعناية فائقة. مثل أوزان الشعر السرياني ورؤوس المقالات المتصلة بالألحان السريانية. ولا ينسى متابعته الدقيقة في سائر الكتب التي وضعها، مثل: كتاب أسرار البيعة السبعة وكتاب الجنازات وسير القديسين وصلاة القديسة ماريا.
وقد تابع المؤلف نيافته وهو يتحدث عن ذلك التراث المتنوع الذي كان يغرف منه في المجال الرعوي وفي المجال الأكاديمي في اللاهوت والفلسفة. وفي جميع الأطروحات التي إعتنى بها، حول الفردوس الأرضي وحول التدبير الإداري. موثقا له السجلات الكثيرة. ذاكرا بصورة خاصة سجل الدويهي وسجل الكرسي البطريركي.
ولم ينس متابعة نيافته، فيما قام به من ترجمات، وهو يتقن الكثير من اللغات. فأفادنا بترجمته لبولات الباباوات ولكثير من الكتابات المنحوتة على الصخر. وقد أتحفنا أيضا في المجال اللغوي، بصناعة قاموس سرياني- عربي. كما ضبر له جميع المراسلات التي كان يقوم بها نيافته، إلى معظم الجهات التي عنته.
ويعتبر القسم الثالث والأخير من كتاب البطريرك إسطفان الدويهي والتراث الشرقي، أهم ما يميز هذا المؤلف الذي حرره الباحث الأكاديمي، طانيوس نجيم. إذ وجد فيه تراث أصالة وإنفتاح، بعمل نيافته على تعزيز التراث الماروني وإهتمامه بكل العائلات الروحية، وخصوصا منها: الموحدون الدروز، والطائفة الشيعية، بحيث وجد في ذلك مسكونية طليعية.
ولم يلبث أن إنتقل للحديث عن التراث الماروني والبيئة الأسلامية الحاضنة له. فوصف لنا ما وجده في مؤلفات نيافته من كتابات تعبر عن العيش المشترك المليء بالنزاعات، وعن تأثير الإسلام على الموارنة. وأن نيافته، عرض لهذا التراث بنظرة بالغة الدقة، مليئة بالإحترام: من خلال نظرته الرؤيوية للنبي محمد. وكذلك في الأحاديث التي عرض فيها الخيارات المنفتحة والشجاعة، التي كانت يتبعها الموارنة، مع أهل الديانة الإسلامي بكل مكوناته. بما يعزز التراث، بالتعليم والتأدب والثقافة والحكمة.
فالطوباوي إسطفان الدويهي، كما عرض لحياته وأعماله، الباحث الحصيف، طانيوس نجيم، إنما يؤكد لنا إهتمام نيافته بالتعليم من جميع الجوانب: تعليم الأطفال خصوصا وكذلك تعليم أبناء قريته. وتعميم المشروع التعليمي التنويري، الذي إنتهجه في حياته، كرسالة دينية وإنسانية ومجتمعية بحيث كانت له إنجازاته الموثقة في النسخ والتأليف.
ويقول الباحث إنه كان لنيافته إهتمام بالغ باللغة العربية. تزود بها، وزود الرعية والكنيسة بها. وظهر ذلك في محاولاته الحثيثة للترجمات المتبادلة التي نشط نيافته فيها، بين العربية والسريانية على وجه مخصوص. وقد جعل اللغة العربية على ثلاث مستويات: اللغة العامية للعموم. واللغةالتعلمية للمبتدئين. واللغة البليغة، التي كان يتقنها أجمل إتقان.
يختم الأستاذ الدكتور طانيوس نجيم بالقول: إن نيافته كانت له مواقف مبدئية من العربية الأصيلة ومن الترجمة منها وإليها. وقد قاده ذلك للمساهمة بكتب التفاسير والشروح باللغة العربية. وكان إلى ذلك مهتما للغاية بالإحتفال الليتورجي بالسريانية والعربية. ذلك أنه كان يستحث المتأدبين كما الكهنة وطلاب المدرسة المارونية بتعلم اللغات الأجنبية وتعليمها، وصولا إلى المؤاخاة بين اللغتين: العربية والسريانية.
وبنظر الباحث، كما أفادته أبحاث نيافته المتنوعة والمتنورة الكثيرة، أنه كان بحق المحرك الأساسي لإلتزام الموارنة الثقافي، متبعا بذلك البنى الأساسية: الإنطاكية والسريانية. بالإضافة إلى بنية الكثلكة وبنية اللبننة. ناهيك عن بنية العربية، التي أفادها بعمق، ودعا إلى الإفادة منها بعمق أيضا.
وفي الخاتمة، يشهد الباحث لنيافته، بأنه حقق في جميع أعماله التي حررها، وفي جميع مراحل سيرته التي قطعها، “إكتشاف تراث طائفته وإحيائه، ليتمكن خلفاؤه والأجيال اللاحقة من الوفاء له والإسهام في إنطلاقه.” ولا غرو، فهو تراث عظيم لا يزال متصلا بالنفوس حتى اليوم. وخير دليل على ذلك، الإحتفال بتطويبه قديسا هذا العام ينضم إلى سائر القديسين، بحفل عظيم في بكركي، وإحتفال مبارك له ولبلدته إهدن. ولبلده الغالي لبنان..
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين