رسالة إلى الشاعر حاتم الإمام
من كتاب ” رسائل إلى بحّار ورسائل أخرى”
للشاعرة والكاتبة سليمى السرايري
-×-×-×-×-×-×-
صَدِيقِي اَلشَّاعِر حَاتِمْ اَلْإِمَام،
لَا شَيْءَ يُخِيفُنَا سِوَى تِلْكَ اَلدَّمْعَةِ اَلرَّابِضَةِ خَلْفَ صَوَارِي اَلْنَّهَارِ نَتَوَسَّدُهَا كُلَّ لَيْلَةٍ لَا يَأْتِي فِيهَا اَلْفَرَحُ.
هَلْ كُنْتَ فِعْلًا تَتُوقُ إِلَى السُّكّْرِ؟؟ أَنْتَ اَلَّذِي تَجْهَلُ أَسَالِيبَ وَمَسَالِكَ اَلسُّكّْرِ بِأَنْوَاعِهِ رُبَّمَا سَيَكُونُ طَعْمَ اَلْعِنَبِ حَامِضًا قَلِيلًا وَأَنْتَ تَتَذَوَّقُ كَأْسَكَ اَلْأُولَى فِي رُكْنِ مَا وَتَكْتُبُ قِصَّةَ تِلْكَ اَلطِّفْلَةِ اَلْيَتِيمَةِ المُمْسِكَةِ بِدُمْيَتِهَا اَلصَّغِيرَةِ بَيْنَ اَلأنْقَاضِ بَيْنَمَا شَيْءٌ مَا يَئِنُّ فِي أَرْكَانِ قَلْبِكَ اَلْحَزِينِ، ثُمَّ تَنَامُ بَيْنَ قَمَرَيْنِ مُتَوَسِّدًا قَلَقَكَ الثَّقِيلَ!
كُلُّ هَذَا اَلْحَنِينِ اَلثَّائِرِ وَالهَادِئِ، لَمْ يُنْسِكَ لَعْنَةَ اَلْجُوعِ، اَلْجُوع اَلَّذِي وَصَفْتَهُ بِالْمُجْرِمِ. اَلْجُوعُ وَالْفَقْرُ وَالْخَصَاصَةُ كَثِيرًا مَا، يَحْرِمُونَنَا حَقَّنَا فِي الحَيَاةِ الكَرِيمَةِ وَحَقَّنَا فِي اَلْحُبِّ اَلْجَمِيلِ وَالْعِشْقِ اَلْعَاصِفِ، تُذَكِّرُنِي كُلُّ كِتَابَاتِكَ بِكِتَابِ اَلْبُؤَسَاءِ وَتَذْهَبُ بِنَا بَعِيدًا جِدًّا إِلَى تِلْكَ اَلْحِقْبَةِ اَلزَّمَنِيَّة البَعِيدَةِ.
أَنْتَ تَمَلِكُ هَذَا اَلْكَمَّ اَلْهَائِلَ مِنْ اَلْإِنْسَانِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ وَالِاحْتِرَامِ لِنَفْسِكَ وَلِغَيْرِكَ، لَنْ أَقُولَ عَنْكَ سِوَى أَنَّكَ كَاتِبُ اَلْإِنْسَانِيَّةِ، صَادِقٌ فِي كلِّ مَوَاضِيعِكَ، سَواء صِيغَتْ شِعْرًا أَوْ قِصَّةً، وَلَا أَفْهَمُ كَيْفَ يَسْمَحُ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ أَنْ يحْذِفَ أَوْ يمْسَحَ مِنْهَا، بَلْ وَأعْتَبِرُ ذَلِكَ جَرِيمَةً لَا تُغْتَفَرُ فِي حَقِّ حَرْفِكَ!
اَلِابْتِسَامَةُ لَنْ تَسْقُطَ مِنْكَ يَا سَيِّدِي مَادَامَ فِي اَلرُّوحِ مَا يُنَبِّتُ اَلْوَرْدَ فِي اَلْمَدَى، مَادَامَ اَلْقَلَمُ يُحَلِّقُ فِي سَمَاءٍ وَاحِدَةٍ . . . وَلَوْنٍ وَاحِدٍ … هُوَ لَوْنُ اَلْحُبِّ وَالْجَمَالِ وَالصَّفَاءِ وَالشَّفَافِيَّةِ وَمَا تَحْمِلُ هَذِهِ اَلذَّاتِ مِنْ اِحْتِرَامٍ لِلًّغَةِ وَلِلْوُجُودِ.
مَهْمَا كَانَ اَلشَّجَنُ عَمِيقًا، وَالْوَجَعُ بَلِيغًا، وَالدَّمْعُ غَزِيرًا، لَابُدُّ أَنْ نَعْتَرِفَ بِأَنَّ اَلْعَصَافِيرَ سَتَظُلُّ تُزَقْزِقُ حَتَّى وَإِنْ مَاتَتْ، وَالْأَشْجَارُ سَتَظَلُّ وَاقِفَةً وَإِنْ احْتَرَقَتْ، وَسَتُزْهِرُ مِنْ جَدِيدٍ حُقُولُ اَلْوَرْدِ وَإِنْ ذَبُلَتْ.
اِجْعَلْ قَلَمَكَ يَرْقُصُ تَحْتَ خَيْمَةٍ مَلِيئَةٍ بِالْأَلْوَانِ وَالْيَنَابِيعِ وَالشُّمُوسِ، فَلَيْسَ كُلُّ رَقْصٍ جَمِيلٍ يَعْنِي اَلْفَرَحَ فَالْأَجْسَادُ تَتَلَوَّى أَحْيَانًا حُزْنًا وَمَوْتًا.
لَا تَنْدَمْ عَلَى لَحْظَةِ صِدْقٍ نَادِرَةٍ خَطَّتْ فِيهَا رُوحُكَ مَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ وَتَتَّسِعُ بِهِ اَلْمَسَافَاتُ، كُنْ أَنْتَ فَقَطْ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الأَسْمَاءِ وَالأَلْقَابِ اَلْمَشْبُوهَةِ اَلْجَوْفَاءِ.
مَا زِلْنَا نَأْكُلُ طَعَامَنَا رَغْمَ اَلدِّمَاءِ اَلزَّكِيَّةِ وَالشُّهَدَاءِ اَلْأَبْرَارِ، رَغْمَ وُجُوهِ اَلْأَطْفَالِ اَلْحَزِينَةِ وَالطَّاهِرَةِ الّتِي فَقَدَتْ سَنَدَهَا لَكِنَّ لُقْمَتَنَا مَغْمُوسَةٌ فِي اَلْوَجَعِ وَالْمَرَارَةِ.
سَنَقْرَأُ كَثِيرًا يَا صَدِيقِي، وَسَنُرْسُمُ غَصْبًا عَنْهُمْ، كُلَّ اَللَّحَظَاتِ اَلْجَمِيلَةِ وَسَنُعَانِقُ وَجْهَ اَللَّيْلِ اَلْأَسْمَرِ وَهُوَ يَحْمِلُ كَمًّا هَائِلًا مِنْ اَلْأَنِينِ.
لَا يَحِقُّ لَنَا أَنْ نَنْحَنِيَ لِلْهَزِيمَةِ وَنَبْكِيَ وَحْدَنَا فِي رُكْنٍ غَرِيبٍ مِثْلَ بُؤَسَاءِ “فِيكْتُورْ”، بَلْ عَلَيْنَا أَنْ نَبْكِيَ وَنَكْتُبَ وَنَبْتَسِمَ فِي آنٍ وَاحِدٍ.
أَنْتَ تَكْتُبُ مَا يُفَجِّرُ اَلْأَقْلَامَ وَتَجْعَلُهَا تُغْنِي حُزْنًا لِأَنَّكَ تَعْرِفُ كَيْفَ تَجْعَلُ اَلصَّمْتَ أَكْثَرَ أَنَاقَةً فِي زَمَنٍ رَدِيءٍ.
أَرَاكَ دَوْمًا كَعُصْفُورٍ يَتِيمٍ يَنَامُ عَلَى ذِرَاعِ شَجَرَةٍ وَحِيدَةٍ، لَمْ أَكُنْ أَدْرِي قَبْلَ اَلْآنَ أَنَّ اَلْحُزْنَ يَتَعَرَّى وَيُصْبِحُ اَلشَّجَنُ فَرَاشَاتٍ ضَوْئِيَّةً تُنِيرُ تِلْكَ اَلْعَتْمَاتِ، وَتُضِيءُ قِمَمَ اَلْمَآذِنِ هُنَاكَ حَيْثُ يُكَدَّسُ اَلْأَنِينُ وَتَبْكِي اَلْأَيَادِي بَاحِثَةً عَنْ دِفْءِ اَلْأَوْطَانِ.
قَلَمُكَ تَحَدٍّ وَاضِحٌ ضِدَّ حُجُرَاتِ اَلْوَجَعِ، ضِدَّ كُلَّ مَنْ حَاوَلَ طَمْسَ اَلْحَقَائِقِ وَدَوْسَ تُرَابِنَا اَلْمُقَدَّسِ.
فَأَيُّ قَلَمٍ هَذَا اَلَّذِي يُلَامِسُ شَغَافَ اَلْقَلْبِ!
لِلدُّمُوعِ مِسَاحَةٌ أَكْثَرُ اتِّسَاعًا مِنْ اَلْبَحْرِ هُنَاكَ يُكَمِّمُ اَلْمِلْحُ أَفْوَاهَ اَلْقَوَافِي وَيَمْتَدُّ اَلشَّجَنُ عَارِيًا، صَارِخًا، يَرْسُمُ قَصَائِدَنَا اَلْمَالِحَةَ عَلَى ضِفَافِ مَنْ تَرَكُوا فَرَاغًا وَتَنْهِيدَةً غَائِرَةً، صَارَتْ الآنَ شَجَرَةً تُفَرِّعُ أَغْصَانَهَا اَلثَّائِرَةَ فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ.
صَدِيقِي،
إِنِّي أَتَسَاءَلُ بِهَمْسٍ، لِمَاذَا كُلُّ هَذِهِ اَلذِّئَابِ اَلَّتِي تَعْوِي بَيْنَ اَلسُّطُورِ؟؟
هَلْ هُوَ اَلْحُزْنُ اَلشَّدِيدُ وَقَدْ أَصْبَحَ اَلْفَضَاءُ طَائِرَاتٍ وَرَقِيَّةً تَبْحَثُ لَهَا عَنْ سَمَاءٍ أَكْثَرَ أَمْنًا؟ أَمْ هُوَ اَلسَّفَرُ اَلْكَامِنُ فِي ذَاتِنَا يَبْحَثُ بِدَوْرِهِ عَنْ تُرَابِ اَلْحَقِيقَةِ وَعَنْ طَرِيقٍ ضَيَّعْنَاهَا فِي غَمْرَةِ اَلْوَدَاعِ؟؟
لِذَلِكَ مَشْرُوعٌ لَكَ اَلسُّؤَالُ وَأَنْتَ تَبْحَثُ بَيْنَ ثَنَايَا اَلسَّوَادِ عَنْ اَلضَّوْءِ وَعَنْ أَسْمَاءَ كَانَتْ تَمْلَأُ قُلُوبَنَا فَرَحًا.
وَلَابُد لِلتُّرَابِ أَنْ يَنْجَلِي وَتَبْزُغَ شَمْسُ اَلْحَقِيقَةِ وَتَفِيضَ أَنْهَارًا، هَكَذَا نَمْضِي مَعًا إِلَى آخِرٍ نُقْطَةٍ فِي اَلْأَمَلِ وَتَعُمُّ صَيْحَاتُ اَلْأَطْفَالِ سَاحَاتِنَا اَلْخَالِيَةَ، حُبُورًا وَسَعَادَةً.
آنَ اَلْأَوَانُ أَنْ تَنَامَ تِلْكَ اَلتَّوَابِيتُ بِسَلَامٍ فَقَدَ مَلَّتْ اَلْأَرْوَاحُ اَلرَّاحِلَةُ كَمِّيَّةَ اَلْأَحْزَانِ اَلَّتِي شَاخَتْ عَلَى قَسَمَاتِ وُجُوهِنَا.
نَحْنُ أَرْحَبُ مِنْ مِسَاحَةِ اَلْبِلَادِ أَيُّهَا اَلشَّاعِرُ اَلْعَمِيقُ.
كَكُلِّ يَوْمٍ سَنُعَانِقُ اَلْوَجَعَ وَتُحَلَّقُ دُمُوعُنَا فِي فَضَاءَاتِ اَلْأَقْبِيَةِ اَلْمُعَتِّمَةِ.
نَحْنُ سَنَجْعَلُ رَقَصَاتِنَا حَالِمَةً وَصَبَاحَاتِنَا قَصَائِدَ نَثْرِيَّةً تُنَبِّتُ أَزْهَارَ “اَلْأَرْكِيدَا” فِي اَلْأَمَاكِنِ اَلْمُظْلِمَةِ لِيَعُمَّ اَلضَّوْءُ وَيَفِيضَ مَرَايَا.
نَحْنُ سَنُقْرِضُ لِلْحُزْنِ حُفْنَاتٍ مِنْ اَلْفَرَحِ، وَنَكْتُبُ بَرْقِيَّاتِ “اَلْوَمْضَةِ” لِكُلِّ اَلَّذِينَ غَادَرُوا عَلَى عَرَبَاتِ اَلرَّحِيلِ.
لِنُمَزِّقْ مَعًا خُيُوطَ اَلْعَنَاكِبِ اَلْمُلْتَصِقَةِ بِجُدْرَانِ اَلْقَلْبِ وَنُشْرِعْ مَعًا نَافِذَةً لِضِحْكَةٍ قَادِمَةٍ.
صَدِيقَتُكَ…
الشاعر حاتم إمام والشاعرة سليمى السرايري