شاعرة الشتات
” تنحي/ فتلك التي هنا، لست أنت/ وحيدة/ لطلما أخبرتهم عنك/ وعني من ينبئ الأغراب/ أني/ غير هذة التي هي هنا الآن… أنت.”
يمضي الشتات إلينا، يصوب علينا. يرغمنا على الجهات التي لا نعرفها. يفت الملح في الجرح. ويفتق عرى الوقت. ولا يجعلنا نبرح البرهات التي قيدتنا.
قاسية، تلك البرهات، في إيقاع الدم، يسري في الأوردة. كم يعاني المشتت، من الغيوم العابرة به، كطير مهاجر بين الأجنحة.
كم يعاني المشتت، من زمنه، وهو ينخل رمال الدرب. حتى تفتح الورد، في وجنتيه، تحت شمسه المحترقة.
“غادا فؤاد السمان. كل الأعالي ظلي. فضاءات. عمان”.
تأخذنا الشاعرة، إلى الجهات كلها دفعة واحدة. نمضي معها، في دروب القهر النفسي. فتتراكم علينا الأوجاع، من جميع نوافذ الشعر التي فتقتها كوى. هو الهجير النفسي، الذي يكوي قصائدها. هي أبياتها المحترقة، تحت شمس الشتات، المندلقة في كلماتها. في قصائدها كلها. تتحسس طعم الرماد، في لغة. في حروف. خرجت لتوها من بئر قلبها. تجعلك أسيرها، قبل أن تمضي معها، إلى شتاتها الأدبي والفكري والشعري. قبل أن تسير معها، إلى المدن التي رمتها في الشتات، وغادرتها.
“من حليبها المعتق بالنكبات، أمي/ أرضعتني/ وأقنعتني أن العفة أولى وصاياها/ والطهر أشهى المزايا في الأنوثة/ وأحلاها…/ كم وكم أدخلتني، محراب التمائم،أمي/ والوساوس/ أوعزتني…/ وأودعتني في الركن الذي لا تراوده/ الشهوات عن يقينه/ فتماهيت في أوهامها/ حتى أغلقتني.”
أليمة حكاياتها في غربة الروح. في إغتراب النفس المكتظة بالوطن. تروي الشعر من مقلتيها، وتجعله ينبت على تراب الورق. يساقط كما الندى في الليل، من جمر عينيها. كم لوعتها الدقائق، وهي تنسل من قلبها، مثل بساتين من الأشواك. مثل حقول من البلور المحطم في شفتيها. مثل صحارى من البحار العطشى والمحيطات المتجمدة. تزرع الجهات الست بأقدامها. ثم تمضي في غربة الروح الممزقة. تتداولها الليالي، مثل يد تدولت الهباء. مثل إبرة تداولت نسيج عينيها. كما البوصلة هي، حين لا تستقر بها الجهات. تراها تدور بها، وهي لا تزال في مكانها. آه لعذابات الروح، حين تذوق من جميع ألوان وأطياف آلمها.
“ماذا لو أموت قليلا/ بعيدا عن هذا الموت المتراكم/ صلبا فوق جناحين/ أو رميا محكما بعاشق طائش/ وثلاثة قصائد مدوية؟”.
الشاعرة غادا فؤاد السمّان
غادا فؤاد السمان، عاشقة الغربة المنتظرة. تمضي غير هيابة إلى وقتها. تزيح عن جفنيها ألق الشفق. ثم تشق كما الغزالة صدر السماء، تعرج إليها. تقتات في رحلة العروج، من ثنايا النور والغيم. وتشرب من حليب الشمس ذوب أشعتها. تراها في جميع كتاباتها، تفتش عن خيط أساس، كان في غربتها. تريد أن تنسله. تريد أن تحيك به كل دقائق شعرها. تريد أن تنسج بها، ثوب غربتها، المغري بالشتات، حتى التذرر. حتى التفجر. حتى صياغة وهم الثبات، في ذروة إحتراقها.
“لا أهاب القيامة/لكنني وشعبا بأكمله/ أمضيت ليلا حالكا/ توهج بالفجور/ لم يكن الدوي وحده/ كفيلا بالنحيب/ وليست الأجساد التي تناثرت/فداء دعابة،/ قهقه لها طويلا/ مجلس الشيوخ،/ مدعاة للنواح.”
يطول بها الوقت، وهي تصبر على علل الأكوان التي عذبتها. تذيق عذاباتها طعم الصبر في حلل القصائد التي مزقتها. كم مر وقت عليها، وهي تعاند بيتا من الشعر، تريد تطويعه، فيعصى عليها. كما قلع ضرس. كما إنبجاس بئر. كما تشقق البيداء، تحت نعلتها.
“لا ألوي على قصيدة/ تليق بمهرجان تزدحم في الأكف/ للتصفيق والمنافقة كما تعرفون….هذا بلاغ تسلل خارج الجرح/ أقرأه عليكم،/ لن أقبل بعد اليوم/ عزاء البوح بمعسول السلام…./ سنوا رماحكم لإستقبالي/ إرفعوا المشانق/ فما بين موت ذليل/ وموت أذل/ أختار الأكثر مذلة/ كأن يصادر أحدكم صوتي/ مثلا..”
أو هكذا صار قلبها، غابة من الشعر الناري. من الشعر المسماري. من إنفجار النيزك في صدرها دفعة واحدة. كانت البرهات القاسية في وقدة حياتها كلها، تتراكم عليها، حطبة وراء حطبة، حتى أستحال قلبها إلى مجمر العنبر. وسرعان، ما يتضوع بخور الشعر في المسام التي أعجزته وأعجزها. فتهل القصائد، كما ورق دوحة، أو أيكة، أو دالية. كما ريشة تتراقص في عاصفة. كما شرارة تتطاير من مرسح التطهر. من مرسح الطهارة. كينبوعة نار، تكفي لشفاء من جاء من رحم الأحزان كلها.
” الواحدة… في منتصف الغرفة،/ أنا./… كل الأشياء الآن،/ صامتة./… الصور المبعثرة بإتقان رتيب،/ صامتة./… النساء اللواتي ترشح الجدران/ بثرثرتهن المملة/ صامتة./… الأغنيات التي تندلع من فوهة/ مذياع الرجل العنين/ الذي غادرته إمرأته/ بحثا عن نزواتها المنسية/ صامتة./ الثورات التي تجلجل/ في ذاكرة… كان،/ صامتة/…الضحايا التي تحتشد/ في ذمة… سوف،/ صامتة/…. الشعوب المدوية في كل حين،/ وكل حيث، وكل مناسبة،/ على غير العادة، / صامتة./… الواحدة إذن من منتصف الفراغ/ كنت أنا/ حين داهمني الصمت/ هيابا/…. ووجدتني في جحيم العناق،/ أدلي إليه/ بكامل…/ صمتي.”
تشق غادا فؤاد السمان، كل فجر، طريقها إلى الشمس. تقرأ كفها. تطلع من نافذة يوم من الصحو، إندلق فوق ورقها الأبيض، وعشش في عب الفل والياسمين. فتراها تنهض، كما غابة من الشعر، تصفي حساباتها حول عرش يليق بها. ترش عطره وتنتظر أن ينبت، الغضب المسور بالأحزان. بقسوة الغربة. وبقسوة الوطن. دون أن تهتز للغامض، من أقدارها، التي هوت بها، إلى مربع من حياتها.
“كيف أزيل قذارة هذا العالم؟/ بئس الهجس،/ وروح الكوكب غارقة/ في دنس، عارم!”.
قست الغربة على الشاعرة غادا فؤاد السمان، حتى كادت أن تتلف روحها. تعيش يومها، على هاجس نارها. ترسم ألسنة اللهب كل ليلة، حلم ليلها. ما هذا الكون الشعري، الذي فجر أتون الشعر تحت ثلج روحها الهادئة. وغار في واد غير ذي زرع. يفجر النبؤات كلها.
” إنها المدينة…/ وفي غفلة من خفر التمائم،/ تلهفنا معا،/ لم تكن هي الشمس التي إنكسرت./ لم يفصح البحر عن زبد الكلام/ وحده سواد القلب/ أنبأنا…/ عما إقترفته الأحقاد والمذاهب.”
تراها في سكينتها، تماما مثل قضية منتهية في شتات صعب. في شتاء من الصحو. في برهة السكينة الداجية. ثم ها هي قصيدة قصيدة تبوح بأسرارها. فإذا بها بركان من حب ومن غضب. من فرح ومن موت. فإذا بها، قصيدة مشتعلة. من فاتحة الصوت، حتى آخر آهة محترقة.
” من أغلق باب الطيش؟/ من فض براءة ذاكرتي،/ من قص مخيلتي… من؟/… دمي المسفوح يضم/ سواقي الجرح،/ وأغني.. كخريف ضل فصول النار./… يا قاذف هذا الثلج،/ يا ساخط هذا القلب، المسكين، لماذا؟/ لماذا… النبض؟/ شفتاي الخمر المر وعيوني،/ برج الوهن المفضوح.”… يا بردى… لو تفتح مجرى الدمع/… يا بردى… يا حاضر هذا العصر… هل مات الأمس برمته؟/ هل ناب اليأس!”
غادا فؤاد السمان، لا تبرح ركنها الذي شيدته بيديها. صفاء بزرقة السماء. ووحدة مسكونة بالجنة. وعذوبة في النسيج. ونار تصطليها. حين تهم بالكتابات الجديدة. وحين تهم الكتابات الجديدة بها. من يرد الشاعر عن شتاته، حين يلجأ الشتات إليه، على وقع قنبلة الوقت، ودوي الصاعقة.
غادة فؤاد السمان، شاعرة الشتات الذي غدر بها.
“لك إجتهادات القصب،/ ومن ضروع الريح.. / تجتر زبد السمات./… أنت والأسلاف في الشهوة/ صنوان من سلالة الفراغ./… حرون وماض في تشبهك،/ خفر محياك.. ولبك حنظل،/ إن خلتك يوسف/ أجبت: بل قطعا أنا الأجمل./… ليلتقط أحدكم خوذتي/ ها قد أتممت موتي،/ بشرف.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين