زهرة الجثة
يتفتح الجسد جثة. كنت أرى تمددها في بدني كل يوم. كيف يترب هذا البدن و يستحيل إلى أرض واسعة كحقل. تنبت عليه جميع الأعشاب. وجميع الأشجار، وتحتف بجنباته، الجداول والسواقي. وينبجس مطرة غزيرة أو خفيفة حينا بعد حين، كما هي العادة في الفصول الماطرة. أراه تحت الرزاز وتحت الأسحم الهطول، والداني المسف، وحبات البرد، وندف الثلج وكراته. أراه يلمع كجل أصابه البرق، بالغيمة الخادعة. أراه قطعة من شفق منسية. أو قطعة من غسق داجية. أراه قطعة من شلال، تمددت تندب حظها في طريقها إلى النهر.
أتحسس مني الضلوع، في برهتي الثقيلة. قفص مثل جملون عمارة دهرية فوقي. مثل قنطرة معاندة. حين أكون متمددا، أو مستلقيا، ووجهي إلى السقف الذي يخبئ السموات عني، حتى لا أطير إليها. هو أنا الذي يرتاح مثل مخدة نائمة. تراه يستعذب الغفو في البرية، وحوله الشوك والقندول، وبعض غصون أيكة مشرئبة شاكية. وبعض أغراس من جذوع القتاد، تحبو إلى وفضة، دلقت من فمها سهامها، تمرأت جنبي. آن تلكزه بالحنين. كلما نسي طعوم المرارة. كلما نسي طعم الحنظل.
يثقل صدري، هذا الجملون. فوقه قرميده من قديد. و من أدم أحمر. إخال نفسي في لحظة واحدة، قبة ضربت للشعراء، يتبارون تحتها: أيهما الشعر؟. ما يقولونه، أو ما يمحونه، في ساعة الذم والقدح. ولات ساعة مندم.
فجأة أرى عيني تنبجثان ينبوعتين رقراقتين، على مرج بنصفين. نصف منه للألأة الشمس. ونصف منه للأفول. وينبت مني الأنف الأنوف، وكأنه يشتم رائحة هزيمة. أو نكسة أو نكبة. يخرس مني الصوت. يغور في جوفي، كما بركة، تثنت فيها الدوائر على مهل. تلامس مني شجا عمري. كان هيدبه يعمر، عاما بعد عام، فيغمرني بالسيل تارة، وبالجفاف والقحط تارة أخرى، يسف غباره علي. ينثر الحصوات. يعريها. كما تفعل الأرياح في “القرنة السوداء”، طيلة عام منهك بالهم والغم والغيم. طيلة عام مثقل بالصقيع وبالجفاء. وبكره الأحباء و الأصدقاء. وبأشياء أخر لم أقلها بعد.
تزهر جثتي حينا من الدهر. يتفتح غضب الطبيعة فيها، تماما كما نراه يمثل بكل أدبه وبكل طيشه أيضا، بين وديانها. وفي مغر تفور ثم تغور. تدلق الموت على نحرها. يتفتح غضب الطبيعة في جثتي أحيانا، دون أن تدري روحي به.
آه لو دريت مسبقا به، ما كنت أتيت إلى ركنها. ما كنت زرتها، حيث هي كارهة.
تزهر جثتي أحيانا كثيرة، وردة الدم. حتى أحيلها للقميص المورد من اللحم. هناك التماهي بيننا: جثة مسجاة على الأرض. والغضب ، تفجر البراكين. تنبع الحمم من فمي. يشوى بها لحمي. فأغص. كثيرا أغص. حتى يكاد غصصي يقتاتني. حتى يكاد غصصي يقتلني.
ماذا يجري في حوانيت الأبجدية حقا؟ في حواريها. في حاراتها. في تكاياها. في زواياها. في جلولها. هل من نصال غيرها نتراشق بها. تصل إلى يد مثل يدي تماما، حين ألوح بها مقاما أو مقالا أو قصيدة عصماء، لا أجيدها. أرى جثتي، كلما إحلولى لها الوقت، فبرحتها روحها. تنثر حولها مثل قنفذ، نثار أبجدية. تدفع عنها، إعتداء عليها. تعذبني هذة الأبجدية النابتة. مثل فرقة غالية. تملأ مسام بدني. تشققه، حتى يزهر غابة الأبجدية الطعينة. أستل من نصلها فجأة، ما هو يقتلني في حينها. يرميني جثة طاعنة.
ما هذا التكوين الذي هو أنا الآن؟. بعض نزق. وبعض غضب. ورجع قهقهات، تمثل طاعنا ينطح عمره، كما ينطح الصخر. أم “كناطح صخرة يوما ليوهنها”.
رأيت سيزيف، يدحرج صخره فوق جثتي. يعاودني، كلما نهضت بها. يهرس لحمي كسيدة تصنع صينية الكبة الإهدنية. يذوق لحمي طعم مدقتها، قبيل أن يتذوق الضيفان. لماذا يوصف لحم جثتي للضيفان. حتى اليوم، ما كنت أدري. ولا أحب أن أدري. أسجل في قائمة الموتى جثتي. ثم أمضي على وجهي.
في كل مرة، أباعد جثتي عن الأيدي التي تشتهي لحمي. يطير نثاره إليها. يذوب على الشفاه، مثل أقاح زهرة منسية. فأخجل من اليدين، أن حصتها اليوم لم تكن كافية. غدا، أو بعد غد، تكون جثتي قد نضجت في الشمس. قد نضج فيها الترب وأزهر. وإخضرت الدمنة. وإخضوضلت مني الساق واليد. يرق الماء فيهما. تبل عروق من إشتهى في الدرب.
زهرة الآلام أنا. زهرة الأوجاع. زهرة الخيبات. هكذا أراني أتفتح كل صباح، على زهرة جديدة، من النوع الذي ينبت على أديم جثتي.
ضمامة من الزهر تلاأمت فوق جثتي. أفيق عليها، في آخر الليل. تضرب الشمس شعيعاتها الباكرة، في قفصي. أفتح الجفنين، على مهل، غير مستعجل، على رؤية الدخان فوق دمنتي. على وحل يدي. أتمطى كقطعة من الصحراء قاحلة. أتحصحص، كمبرك الإبل. وأجلس:
وجهي إلى وجهي. تعبر خطاياي على شاشتي. أقول لنفسي: أأنا كل ذلك؟. يجيب صدى غرفتي: نعم وأكثر.
أصرخ في وادي روحي: ما هكذا يستدير القمر. لو تعلمت منه، إستادرت زهرة جثتي إليه. طبع نوره عليها. وصار تراب عيني أجمل. لا ينبت إلا الأقحوان وشقائق النعمان. لا ينبت إلا دالية الدار. وطاولة الصباح. وفنجان القهوة.
لا ينبت إلا يدا تطال يدي. تسلم علي. ونمشي سواسية، علة بعلة. وجثة بجثة. وموتا بموت.
آه كم أخشى وأنا تحت جملون قبتي الحمراء، فوق جثتي…
آه كم أخشى حروف العلة!
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين