من كتاب : “رسائلُ إلى بحّارٍ ورسائلُ أخرى”
رسالة إلَى الشَّاعِرِ / قليعي بوخاري
–
صَدِيقِي،
حِينَ تَكْبُرُ زَيْتُونَةٌ فِي حَقْلٍ شَاسِعٍ هُنَاكَ فِي مَكَانٍ مَا، أُدْرِكُ تَرْكِيبَةَ الأَلْوَانِ وَذَلِكَ الذَّهَبَ اَلَّذِي ذُكِرَ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ.
حِينَ أَسْمَعُ وَشْوَشَةَ أَوْرَاقِهَا، أَفْهَمُ لِمَاذَا أَطْلَقَتْ عَصَافِيرُ الصَّبَاحِ زَقْزَقَتَهَا فِي تِلْكَ الحُقُولِ.
وَحِينَ تَأْخُذُنِي هَذِهِ الْوَشْوَشَةُ وَهَذِهِ الزَّقْزَقَةُ، أُدْرِكُ جَيِّدًا أَنَّ سَبَبًا وَجيهًا أَغْرَاكَ بِعِشْقِ الطَّبِيعَةِ الفَاتِنَةِ.
صَدِيقِي،
أَنْتَ مَنْ نَسَجْتَ لِرَاعِيَةِ المَاعِزِ جُبَّةً مُلَوَّنَةً وَهَمَسْتَ لَهَا فِي غَفْلَةِ نَخْلَةٍ عاشِقَةٍ:
حَذَارِ، لَا تَشْغَلِي بَالَكَ بِالظِّلَالِ البَاهِتَةِ وَلَا بِعَوَاءِ ذِئْبٍ خَبِيثٍ جَاءَ يَقْتَفِي أَثَرَ عِطْرِكِ العَنْبَرِيِّ، لَا تَعْبَئِي بِقَرْقَعَةِ المَنَاجِلِ بَلْ، أَصْغِي جَيِّدًا لِسَنَابِلَ تَمْلَؤُهَا اَلْشُّمُوسُ، لِسَنَابِلَ كَانَتْ تَسْتَعْجِلُ الحَصَادَ، مُنْبَهِرَةً بِمَوْتِهَا اللَّذِيذِ.
أَنْتَ مَنْ حَرَسَ رَاعِيَةَ المَاعِزِ يَا صَدِيقِي، وَرَوَى لَهَا حِكَايَاتِ الحُبِّ، فَصَرَخَتْ مِنْ نَشْوَةِ الدِّفْءِ.
إنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الشّاعِرُ اَلَّذِي يَخْلُقُ أَعْرَاسًا جَدِيدَةً لِلْغِيْمَاتِ الشّارِدَةِ، وَيُقَبِّلُ أَصَابِعَ النَّجْمَاتِ، وَيُدَاعِبُ خَدَّيْهَا فِي غَفْلَةِ اللَّيْلِ، وَرَاعِيَةُ المَاعِزِ اَلْفاتِنَةُ هُنَاكَ، تَنَامُ حِذْوَ آلِهَةِ الجِبَالِ وَقَدْ تَحَوَّلَ قَلْبُهَا إِلَى مَنَابِعَ زُلَالِيَّةٍ يَشْرَبُ مِنْهَا الْيَمَامُ وَالفَرَاشَاتُ وَعَابِرُو السَّبيلِ.
مَا زَالَتْ تُطَارِدُ عَازِفَ النَّايِ الغَرِيبَ وَتُصْغِي إِلَى نَغْمَةِ هَلِعَةٍ فَرَّتْ مِنْ وَتَرٍ حَزِينٍ.
يَا صَدِيقِي، أَخْبِرْنِي كَيْفَ نَسَجْتَ مِنْ نَوْلِ الحُرُوفِ شَالًا لِرَاعِيَةِ المَاعِزِ الجَمِيلَةِ تِلْكَ اَلَّتِي غَمَزَتْكَ بِطَرْفِ عَيْنِهَا وَقَفَزَتْ إِلَى صَخْرَةٍ عَالِيَةٍ لِتَتَحَوَّلَ بَعْدَ قُبْلَتَيْنٍ، إِلَى شَجَرَةِ لَوَزٍ بَيْضاءَ.
لَمَحْتُكَ مَدْهُوشًا تُلَمْلِمُ قَصَائِدَكَ وَتَحُومُ حَوْلَهَا مُحْتَضِنًا خِصْرَهَا الرَّشِيقَ يَتَقَمَّصُكَّ الشَّبَقُ لِمُنَاجَاتِهَا:
يَا رَاعِيَتِي اَلْفَاتِنَةَ، سَأَتْرُكُكِ هُنَا، فَآرْقُصِي لِأَعْرَاسِ المَطَرِ الجَبَلِيَّةِ الرّائِعَةِ وَتَعَرَّيْ لِلرِّيحِ الجَمِيلَةِ، كُنْتُ أَشْتَهِيكِ جِدًّا، وَأَتُوقُ إِلَى العَسَلِ البَرِّيِّ فِي عَيْنَيْكِ النَّاعِسَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ تَجْعَلَكِ السَّمَاءُ مَخْلُوقَةً لَوْزِيَّةً شَدِيدَةَ البَيَاضِ، رَقِيقَةَ الأَزْهَارِ بَدِيعَةَ المَنْظَرِ، سَاحِرَةً تَحْمِلُ الفُصُولَ وَاليَنَابِيعَ وَتُغَنِّي لِقُبّرَةٍ حَزِينَةٍ.
“تَسَاءَلَتُ مَلْءَ حُزْنِي وَأنَا اُسْتَعِيدُ مَلَامِحَهَا :
كَيْفَ أَزْهَرَتْ اَلْأَعْشَابُ اَلْبَرِّيَّةُ فِي مُقْلَتَيْهَا وَارْتَفَعَتْ نَخْلَاتُ اَلْحُقُولِ من كَفَّيْهَا وَهِيَ تَسَلُّمُ جَسَدَهَا قُرْبَانًا لِلْأَبَدِيَّةِ؟”
لَمَحْتُكَ يَا شَاعِرِي، تَبْكِي مُنْتَشِيًا مِنْ شِدَّةِ الوَجْدِ وَتَسْكُبُ حُرُوفَكَ نَبيذًا مُعَتَّقًا فِي أَقْدَاحِ السَّمَاءِ.
صَدِيقَتُكَ سليمى السرايري
الشاعرة سليمى السرايري والشاعر قليعي بوخاري