الحقائق المعلقة
“مسباري مزيج من العلوم والمشاهدات والقراءات والتجارب. وقد قمت بصهرها في أتون التحليل المنطقي، أملا في كشف النقاب عن العديد من مظاهر الحياة وخصائص الوجود.”
مهما صار الإنسان إلى العلم. إلى المعرفة. إلى الإحاطة بالكون. مهما نشط، على مستوى البحث في دقائق هذة الحياة المترعة بأنابيب الولادات اليومية، للأجرام وللنجوم وللكواكب. ومهما غاص، في أعماق البحار والمحيطات، وإخترق من جوف هذا الكوكب الأرضي، حتى بلوغ اللهب القار في الأعماق، يظل السؤال الذي لا يفارق لبه وجنانه، هو الوجود من الخالق. ومن العدم. ومن بيضة الرخ التي إندحت ذات مساء، على روح، رأى فيها أصل الأشياء.
” كريم رياض تقي الدين. رحال ومسبار. دار عودة- مواهب أدبية ودار نلسن- بيروت 2024″.
ينصرف هذا البحاثة للتعرف، على ما يعتبره الشاق والشائك، الذي هو مصدر كل تساؤل وكل سؤال. تراه يقلب وجوه الحياة كلها. يندرج فيها، حتى آخر ذرة. حتى آخر ذبذبة. حتى آخر رعشة، تحمل إليه شفاء الروح، من السؤال. فلا يلبث أن ينشق من شفتيه سؤال السؤال، فيعود ديدنه لطرح الأسئلة التي تتناسل من بعضها، حتى تغيب كلها، كما في اللعبة الروسية. فيضحك كريم تقي الدين، وكأنه أدرك أن السؤال، هو في الأصل، المحال.
“لا بد بعد هذا العرض من محاولة الإجابة عن السؤال التالي: لماذا صفة الثقيل ملازمة للفراغ. وهل من حكمة في ذلك؟”.
ينبري الباحث الكوني، لإستطلاع الحقائق المعلقة. يعرش وراءها، وكأنها حدائق معلقة. تغويه كلما دنا منها. يحاول فقط المعرفة، فتواجهه الصعوبات. تواجهه العقبات. تحجزه الجهات. كلما سبر جهة، إنفتحت عليه سائر الجهات. يعتقد أنه صار قاب قوسين أو أدنى حتى يطال النجوم بقصبة الصبية، في رأس الجبل، فيتراجع الهوينى عن خيبة أدركته، وهو في عز ظنونه، أنه قد وصل.
” إن التمعن ب” معادلة الحياة” يؤدي إلى إستخلاص بعض الحقائق المثيرة.”
كريم تقي الدين، لجوج في السؤال. ينتظر على بابه، قدوم الغائب. يطول إنتظاره كثيرا، حتى يكاد أن يفرغ من وقته. فيمنح نفسه، فرصة اليوم التالي، حتى لا يقول لنفسه، أن الخيبة أوجعته. وأنه يعالج الخيبات بالخيبات. ما تراه فاعلا، إزاء أزماته الوجودية، غير أن يلج في السؤال. وهذا بحد ذاته مأزقه. بل مأزق المتسائلين، وراء غيمة تعبر بين عينيه، ولا يستطيع، القراءة، لا في كتاب الغيوم ولا في كتاب العلوم. تراه يتراجع فورا عن ساحة العقل، شاكي السلاح.
” نطاق المنطق واسع جدا… ما يحتم على المنطق أن يكون إنسانيا يراعي مصالح الفرد والجماعة بشكل عام.”
أمران معجزان عن اللحاق بالسؤال. عن الإلحاح بالسؤال: موت يعقب موتا. وحياة تعقب حياة. وهو لا يعرف، عما إذا كان صنو الموت أم كان صنو الحياة. يعرف فقط دربه. يظل يسير. ويجد كل يوم في المسير، حتى النفاد إلا اللامعقول. حتى النفاد إلى المستحيل.
“تؤكد الحقائق الأربع، التي وضعها أرسطو لفهم الأشياء، أن الإنسان يملك وسيلتين لبلوغ هذا الإدراك هما العقل والتجارب.”
رحال ومسبار، هو كريم تقي الدين، أم عقله الذي لا يهدأ عن الدوران مع الأفلاك. مع دبيب النمل في عروق الكون. مع نسيمات الهواء. مع الذرات التي ما إنشقت إلا له، حين ردها إلى قلبه، يرجع بها النظر كرتين. تراه يقلب الوجود على راحتيه، ولا يهدأ لنمنمات النجوم، تشكل دروب المجرات، إلى جرمه العظيم في جرمه الصغير. ماذا عليه أن يفعل، غير قطع السؤال عن شجرته. وماذا سيفعل، إذا إشتجر عليه السؤال أشجارا أشجارا، كما نبتة جذعها في الأرض، وفرعها في السماء.
“الإنسان مخلوق إجتماعي، بحاجة إلى التواصل مع غيره… واللغة إعجاز رباني أمن التواصل بين البشر، وحفظ تراثهم الإنساني..”
يعيش الدكتور كريم تقي الدين على السؤال، كانه في حدائق معلقة. أو كأنه من فرع الحقائق المعلقة. تراه جواب آفاق، لا يمل ولا يكل، ولا يتوقف عن الإمعان في السؤال، كما الإمعان في الجهل الصراح. كيف له أن يتوقف عن العروج وراء السابقين. كيف له أن تقف عجلاته، على درب القمر.
” تجدر الإشارة كذلك، إلى إمكانية وضع شروط مسبقة من قبل أحد الأطراف، تختص بمرحلة ما بعد المشروع….من أجل وفاء واضعها بإلتزاماته…”
يدور الباحث عن ظله، كما يدور الباحث عن نفسه. تتراءى له الدنيا على سعتها، ولا يرى الحقيقة في نفسه. هذا هو أصل البلاء الذي أوقع الدكتور كريم نفسه بنفسه. سؤال يجر السؤال. ولا تنضب جرار الأسئلة. كأنها بلا قرار حين يسأل.
” إذا نظرنا إلى عالم الأعمال،نجد سيطرة الفرضيتين التاليتين ألا وهما: الفرضية القائلة إن الوجود دراسة جدوى… والفرضية المتعلقة ببقاء أي مشروع… بغية الوفاء…”
“أنا مقتنع بأن هذة النخبة من الرجالات موجودة، ولكن لا حول لها ولا قوة. رأيها غير مسموع. وتأثيرها معدوم. يعيش كل من هؤلاء الشرفاء تحديا ذاتيا يتلخص بالمعضلة.”
ليست تلك الحقائق التي علقها ، إلا حقائق معلقة. تنتظر الإجابات. في ساعة. في سويعات. في ساعات. وربما لا يصل إليها، أبد الدهور. غير أن كريم السائل نفسه كل يوم، مصر على إقتطاف الحقائق المعلقة، وكأنها في جنة منتظرة.
” من هو قصير النظر؟/ هو كل من يعتقد أن حدود العالم تنتهي عند مرمى نظره ولا تتخطى مجال رؤيته.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين
قراءتك د. قصي إبداع يضاف على إبداع. قدمت لنا ما يغني من حقائق عن كتاب د. كريم. فالمثقف الإكاديمي أمثالك ينير سبيل القارئ، ويوسع دائرة فهمه؛ خاصة إذا كان العمل سمينا وثمينا ككتاب رحال ومسبار.