الشاعر الرزين
” علمني الرب الجميل
كيف أنشر أشرعتي
في أعالي الوجد العاتية
شرعا ويقين.”
يصعب جدا أن تجد وصفا واحدا لشاعر، يتسم به ولا يفارقه من أول ديوانه. من أول شعره، إلى آخره. لأن الشاعر، هو كل الفصول، تماما مثل عام. ولأن الشاعر مثل جبل، يرقى إليه كل الغمام. فمن أي جهة جئت الشاعر، تجد عنده من كنوز الشعر، ما يضيق على اليدين. ذلك أنه هو الكنز.
” إسماعيل الأمين: المرأة التي أعرف. زمكان. بيروت-2024″.
ديوان من الشعر إكتملت بين دفتيه رزانة القول، حتى صح فيه أن نسميه: الشاعر الرزين. لا يخالطه أبدا غير الشعر الصافي الرقراق. إن كان في موقع. أو كان في موقف. أو كان في وصف. أو كان في إشتياق.
” هي في الأرض كتاب وصلاة.
وفي السماء أفلاك ومنازل…
هي هي.. من العرجون إلى القمر.”
الرزانة عند إسماعيل الأمين، هي منزلة بين الغناء والفلسفة. شعر مطعم بالحكمة. مطعم بالهيبة. مطعم برقة الوجدان. ورزانة في القلب وفي اللسان. تستثيغه النفوس العطشى إلى الأبعاد المحجوبة. يتسقطها واحدة واحدة. ثم يستريح.
” حدق في المرآة …
كم أنت جميل… وحبيب…
وأثير…
في حضرة العذوبة والجمال.”
واحد من الشعراء القلائل هو إسماعيل الأمين، الذي يمضي يوميا يقلب عقله الرزين بأعبائه، على وسائد الحياة كلها. لا يدع أمرا يفوته، لأنه يشعر دائما، أنه معني بكل الأمور. يجمع برزانة عاقلة، بين المشاعر والواجبات اليومية، والمواقف العامة. يقول في كل أمر شعرا أدق من الوصف، لأنه أعقل من الحب. ولهذا يندفع في طرق جميع أبواب الحياة، تماما مثلما يندفع في طرق جميع أبواب الشعر. وجميع أبواب الفصول.
” فاض الوجد… وطال الغياب
فإستدارت جميع الزوايا
نحو رياح الشوق
وكل ما في القلب من قلق وعنبر
كأنما الآيات في حكاية العشق…
قدر وربما أقدر.”
لا يمتنع عليه القول الوازن، في أي نوع من القصيد. لأنه يريد أن يسلك به في طريق ما إرتادته الأرجل. ولا وقعت عليه الأقدام. وهذا الشأن من الشعر، لا ينقاد إلا لشاعر متمرس في الرزانة: من الخطوة الأولى في الدرب، حتى الذوبان الأخير في بئر القلب.
” مهلا../ لست منكم. ولا من هذي الجحافل./ لست من نار/ ولا من طين/ أنا إسماعين/ سماعين/ سماعين الأمين.”
يقف الشاعر إسماعيل الأمين من مقاصد الشعر كلها، موقف الشاعر الرزين الوازن. لأنه يعتدل في الموازين، ولا يستخف بها. فالحب عنده ثقيل المطر. والموقف عنده ثابت الخطى. والحياة عنده بكل أبوابها وأوصافها، إنما هي مزيج بين شوق وعروج. ولهذا تراه يتهادى مثل موكب، وإن في بيت بسيط من الشعر.
” آنست عمره حين أطلت/ أطلت من مفازة الرغبة/ وإستراحت قرب نيطه./ أضاءت سمات الوجد/ لكنها أدركت غريمتها…/ حظتها وبكت./ تركت وضاءة الروح،/ وأسرت بضع كلمات. “
الشاعر د. اسماعيل الأمين
ما هذا الرجل الثقيل الذي إسمه الشاعر إسماعيل. الأديب إسماعيل. الباحث إسماعيل. الناقد إسماعيل. بل العلامة إسماعيل. لم لا. وهو سليل بيت العلم في جبل عامل، منذ أن كان لهذا الجبل، بيت للعلم، يؤمه المؤتمون. ويعبون منه، العطش إلى النور.
“إذا هممت بالرحيل/ قفلي الباب/ وزفي المفتاح للبالوعة، أو لشذوذ النهر المجاور./ وما الرحيل إلا نزوة/ نزوة تفتح مسالك النمل الأخضر، إلى المواسم الصفراء/ حين أشعلت شمعتين/ واحدة في الحذاء وأخرى في الكتاب./ شاء الرب إضاءة الكون/ مما تكور بين نهديك/ ومن قبلتين سانحتين/، على قدم وساق.”
إسماعيل الأمين، في ديوانه الأخير: المرأة التي أعرف، إنما هو كل ذلك وأكثر: في الحب المندفع إلى أصوله العميقة في قاع النفس، حيث الحياة الشاردة وراء الفصول كلها. يزيح عن عينيه ستائر الطبيعة، فتنكشف له دنيا المعاني. ودنيا الحقائق. ودنيا الغيب، حتى يصير، على قاب قوسين أو أدنى، من الوقوع على السر المصون.
“رحلت في الأرض غامضا/ أسير جنب حذائي/ واليوم أسأل نفسي/ مطأطأ الهمة والرأس/ من يا ترى… مشى العمر/ أنا أم حذائي؟.”
إسماعيل الأمين، واحد من الشعراء الذين إرتادوا أبواب الشعر، على وقع الثقافة العميقة التي إجتناها وإجتباها على مهل، مثل الوقوع على الحب. ولهذا نراه يوازي في شعره “الهاهنا”، بين الخفة والثقل. لأنه قلق على الشعر. لا يريد أن يقول: أنني شاعر. بل يريد أن يقول للشعراء: ما هكذا يورد الشعر.
” الشوارع أوردة المدينة/ والناس دماؤها/ وأنا آخر خلجة/ تحاصر القلب بالنبض/ ولا تفلح.”
الشعر الرزين، مثل صاحبه، يثقل على الوصف.
“صاح الطير المحلق فوق شواهق الوجدان/ صيحة من أعماق اليقين: الأوطان لا تقوم.. إلا بقوم/ ومن قام .. حقا يقوم../ الرجاء.”
د. قصي الحسين
استاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين
و تترقرق ساقية الجمال و الفن من منبع اسمه اسماعيل إلى مصب اسمه قصي كي تعلن الكثير من اسرار الشعر و مذاقاته التي تغرد بها عصافير الحياة.