ساعة الحقيقة
متى وصلت إلى ساحة الحقيقة، تجد نصبا عظيما. براه النحاتون. وزينه التشكيليون. وأضفى عليه القيمون على الوقت، ميقات رهبة عظيمة: جعلوا في أعلى النصب هذا، ساعة تجسد الحقيقة الساطعة، التي تمسك بالألباب وتهزها هزا. وتقض مضاجع أصحابها. وصار الناس يشيرون إلى ساحة الحقيقة، بالساعة المنتصبة في وسطها. حتى غلب أسم الساعة عليها. فصاروا إذا تحدثوا عنها، إختصروا و قالوا: ساعة الحقيقة.
إتخذت الساعة إسمها، من ساحتها إذن. حيث كانت المعارك تدور. وحيث كان الغبار يعلو في الأجواء. كل شيء كان يطير في تلك الساحة، التي أفرزت المواقف. وأبانت عن النوايا و العزائم. ولهذا كانت ساحة الحقيقة، هي مرآة للنفوس المضطربة، التي أضرت بها الحقيقة وأفزعتها، وجعلت فرائصها ترتعد. وجعلت كل شيء فيها، يمور أو يغور في قيعان النفس. حتى بات الأمر، أشد قسوة وأعظم مرارة. وحين نصبوا الساعة في وسط الساحة، لتقرع للأقربين وللأبعدين، ذاع صيتها. فصاروا يقولون: إنها ساعة الحقيقة.
إرتبطت ساعة الحقيقة بأذهان الناس، بساحة الحقيقة. وما عادوا يستطيعون الفصل بينهما. وكلما كانوا ينظرون إلى الساعة، ترن في أذهانهم على إيقاعات الحروب الدامية. صار التاريخ كله، يندفع، بل يقذف أمام أعينهم. وصارت المعارك كلها، تنهال شاشة عقولهم. صارت تستعيد جميع المؤامرات التي حيكت ودبرت لهم، في ساعة من الليل البهيم. فكانت تتجسد في أنظارهم. وتقوم مشاهد أهوالها في عيونهم.
كانت دقات ساعة الحقيقة، تظل تكرر مأساة هذة البلاد التي قصفت على مدار أشهر. بل على مدار سنة بكامل شهورها، حتى سويت بالأرض. ما عدنا نرى فيها الأسواق العامرة. ولا الأبنية الشاهقة. ما عدنا نرى فيها الجامعات ولا المدارس ولا المستشفيات. ولا مراكز البريد. ولا الإدارات العامة والخاصة. ما عدنا نرى على شواطئها المنتجعات العامرة. ما عدنا نرى فيها، أي مبنى يذكر بأيامها الحلوة الغابرة.
صارت ساعة الحقيقة، حين تضرب الوقت، كأنه تقرع بالعصا. فكانت تنتفض مثل ساحة للحرب المدمرة. للمعارك الشبيهة بأعظم المعارك التي جرت في التاريخ الحديث والمعاصر. تغير عليها الطائرات. وتقصفها أرتال الدبابات. وتستهدفها الصواريخ، وينهمر فيها الرصاص. تتراكم السقوف فوق بعضها. وتتشقق الأبنية السكنية فيها، كما يتشقق الركام. يتزلزل عن أطفال يخرجون من تحت الأنقاض. يتعفرون بالموت. ترى جباههم المشققة. ووجوههم المدماة. وقلوبهم الميتة. وأطرافهم المتهلهلة والمتقطعة.
كانت ساعة الحقيقة، تذكرنا بفرق الإسعاف التي تندفع بمعداتها اليدوية البسيطة، لتنتشل من تحت جبال الركام، المنتشرة، في جميع أنحاء المدينة، وفي جميع أنحاء القطاع، الجثث المتشوهة بالعشرات وبالمئات. وبالآلاف.
كانت ساعة الحقيقة، كلما دقت، في أي وقت من الأوقات، تذكر من بقي من الناس على قيد الحياة، بالمدينة التي تآمرت عليها جميع القوى، فأشعلت فيها النيران كما في ثوب العروس، من جميع أطرافها. فإرتمت غزة في ساحة الحقيقة، بعد شهور عظيمة من مغالبة الوحوش، جثة هامدة.
لا تعرف غزة، كيف دخل إليها حصان طروادة. ولكنها إكتشفت بأم العين، من أين جاء. ومن أرسله. ومن أدخله في وسط الدغشة السوداء، ليضرم النار فيها، ويشعل جميع حاراتها.
كلما دقت ساعة الحقيقة، تذكر أهل غزة مصابها. كانت في تلك الليلة تتوسد البحر. وتنام مع أطفالها. يحلمون بالعيد و بالأراجيح. وبالنهوض باكرا حتى يلحقوا بأوتوكار المدرسة أو بأوتوبيس الجامعة. وفجأة فاجأهم في منتصف الليل من يشعل الفتيل، ويحول ليلها العامر، إلى ليل قتيل. وصارت المدينة، بل القطاع، بل البلاد كلها إلى الجائحة.
كانت الطائرات والأرتال والجند ينتظرون ساعة الصفر، حتى يغيروا على أهدافهم. وكانت غزة العروس تبدو في وسط المرمى، بغاية الأناقة تسرح شعرها، لتذهب إلى النوم. فاجأها الرصاص في الساعة المتأخرة من الليل. هكذا كانت ساعة الحقيقة، كلما دقت اليوم، تعيد على أذهان من تبقى من الأحياء. من نهضوا من بين نعوش الموتى، حكاية ساعة الحقيقة، التي تعاون الأعداء جميعهم على إعدام المدينة في وسط الساحة.
ساعة الحقيقة، في وسط ساحة الحقيقة من تحت ركام غزة، تدق في أحيائها اليوم، على مدار الساعة، دقاتها، بلا نصب ولا ساعة ولا ساحة، لأن غزة كلها حولها الغزاة إلى ساحة. ترى السماء تنهمر فوقها، تعيد مشاهد الدموع والدماء التي إنهملت، فوق المدينة. وكل أبنائها من الشهداء أو الجرحى أو الجوعى…
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.