..في تقديمه لأمسية “ملتقى حبر أبيض ” التي شارك فيها الشاعران جهاد حنفي وجمانة نجار ، دعا رئيس الملتقي الشاغر مردوك الشامي الشعراء والكتّاب والأدباء إلى إقامة جسر متين بين المحبرة ونبض القلب ، وإلى عدم الانشغال بالإضرار ومحوّ الآخرين بل الاشتغال على تطوير الذات والوصول إلى جوهر الإنسانية..
نص كلمة الشاعر مردوك الشامي :
لايمكن أن نصنع أدباً عظيماً ، إذا لم نكن عظماءَ في اللغة والخلق والخلقِ والمحبة..
ولايمكن لشاعرٍ كتابة قصيدة خالدة، إذا كانَ ذا قلبٍ اسـودَ ، ولا يتقن فضيلة التيقّنِ والغفران.
ولايمكن لأيّ نصّ أن يكون صادقا وحقيقياً إذا لم يكن يشبه صاحبه..
وما بين النص وصاحب النص جسرٌ متين من الشفافية والاتحاد المنطقي ما بين المحبرة ونبض القلب، فأنا لا أصدق شاعراً يكتب عن الاخلاص والعفاف والعشق، ويقضي كل وقته في مواخير العهر والتحرّش بكل نساء الكون ، ولا أحترم شاعراً وهب حروفه للثورات ومحاربة الطغاة، وهو يستلقي على بلاطهم ذليلاً صاغراً ينال رضى المحظيين والمحظيات..
ولا أبرّرُ لأديب أو أيّ كاتب أن لايرى سوى ملامحَه وتميزَه في مرايا الأنانية وبحيرة نرسيسه الشخصي الكامن في الخفاء وأحياناً في العلن ..وأن يشـغله الإضرارُ ومحوُ الآخرين أكثر مما يشغله تطوير الذات والوصول إلى جوهر انسانيته.
ولايمكن أن يقنعني أيُّ كائنٍ على هذه الأرضِ لم يهزه الموتُ في غزة، ولم تقطّعْ
اوصالَ روحهِ مشاهد القتل والإبادة لأهلنا هناك، فكيف بالشعراء والمثقفين ويفترض بهم امتلاك مشاعر أكثر رهافة وحساسية ضد الظلم أيّ يكون، وغالبيتهم إمّا صامتون أو صامتون!
أقولُ لكم إننا في هذه المرحلة من عمر هذا الكوكب نشهد سقوط الإنسان، نشهد انتصار الباطل، وسلطة الذئب على شعوبٍ باتت أقلّ خرفنةٍ من قطيع ماشية يساق راضياً إلى حظائر حكامنا المبيوعين ومسالخ العالم المسخ.
أسوق هذه المقدمة ولا أدّعي القداسةَ والبياض الخالص، لكنني أتجرأ على القول والبوح حتى وأنا أدين نفسي واصفعها في حال انحرافي عن الصواب، في حين يدّعي كثيرون ما ليس فيهم، بل يتباهون بتقديم صورَ نقيضةً عما هم عليه فعلاً، وهذا يحوّل المشهد الثقافي عموماً في الحاضر والمستقبل إلى مستنقع أسن لا اكثر ولا اقل.
الشاعر مردوك الشامي
أما ما يخص امسية الليلة ..
ساتحدث أولاً عن مايخصُّ حبر أبيض كملتقى
حبر أبيض ملتقى للجودة، ولكلمة الحق، ومفتوح لكل من يمتلك الموهبة والمقدرة على تطوير النص والذات، ومفتوح أكثر خلال المرحلة المقبلة لجيل الشباب من الموهوبين الحقيقيين..ولن نغلق هذا الباب الأبيض الواسع إلا أمام المدعين ومتسلقي الشعر والكتابة.
ستكون أمسياتنا القادمة للشعر بكل أنواعه، موزونا ومنثورا ، فصيحاً ومحكيا، الشعر يهمنا ، وأعرف كم يسعى كثيرون للإساءة إلينا.. حين تأتي الإساءة من الممنوع صرفهم على منبرنا ، فهذه شهادة تقدير بها نعتز ونفخر.
وسنفتح منبرنا للقصة القصيرة، والنص الأدبي المنثور إن كان يمتلك فعلا بطاقة العبور إلى الفرادة والتأثير الإيجابي.
وفي جعبتنا وفي المرحلة المقبلة أكثر من مهرجان، للمحكية وقصيدة النثر.
سنشهد في القريب إعادة تشكيل للهيئة الإدارية وإضافة أسماء جديدة هدفها العمل من أجل الكلمة ومن أجل منح هذا السواد الذي يحيق بنا قليلاً من النور والبياض.
أما بالنسبة لفارسي الليلة .. الشاعرين الحبيبين جمانة شحّود نجار وجهاد الحنفي ..فكثير من الكلام يقال عن تجربتين تتشابهان في اللغة والإيقاع، وتنتميان لمدرسة الموقف والأصالة الشعرية، وتختلفان في الفكرة والتوجه..
وابدأ الحديث عن جمانة نجار وأدبها..
على قدر مافي جمانة من أنوثة وحوّائية فطرية، على قدر ماتمتلك مخالبَ حادةً حين تقوم إلى الكتابة..
هذه الحديّةُ في الخطاب الأنثوي الموجّه للمذكر،قد يراها كثيرون وأنا كنت منهم خطاباً استفزازياً وكثير القسوة ، أشبه مايكون كغابةٍ الأشجارُ فيها والتراب والريح أصابع اتهامٍ للرجل، تنشبُ في مسيرته مخالبّها، وتشقّ قميصه من قبل ومن دبر ومن كل الاتجاهات..
ويوسف عند جمانة، أو في أدبها وكتبها، ليس يوسف النبي، هو يوسف الواقع الذي تراهُ ذئباً يجلس على حافة البئر، ليقتنص كلّ حلم يفكر بالخروج ولو ليتنسم قليلاً من الحرية والأوكسجين خارج المياه الباردة.
هي صادقة في كل ماتكتب.. وصادمة، لكن مايغفر لها هذه القسوة، أنها في كل خطابِها الشعري لا ترمي الرجلَ بسهام الشك أو الاتهام، هي على مذبح تجربتها الشعرية والحياتية، ترمي الذكور عراة من إنسانيتهم، وتسلط على أعناقهم سكين القصيدة.. وسكين جمانة لا تجرح، ولا تريق الدم..هي سكين عاتبة ولائمة وموجوعة وهي التي تنزف بدلا عن الجرح الذي لا تقدر حتى على رسمه ولو على ورق.
جمانة نجار.. شاعرةٌ واقعية، الخيال لديها ليس المسيطر، شاعرة موقف من القضايا الوطنية الكبرى، ومن المظالم التي بلاحدود، وايضاً تلتزم الموقف الذي يناصر المرأة وهي في أحايين كثيرةٍ تتعرض للوأد في حفرة كبيرة جداً اسمها المجتمع العربي.
صديقتي جمانة,, المنبر لك ، وسنضع على رؤوسنا الخوذات، وعلى صدورنا الدروع كي ننجو من القصف.. فاقصفينا يا رعاك الله.
أما جهاد الحنفي.. فأنا اتحدث عن شاعر أحبه.. عن شاعرٍ شاعرٍ متميز، ودفاق، وأصيل، وحامل للهمّ الجمعي ، والقومي..
شاعرٍ يأتي من عمق الجرح ، من فلسطين، ويحملها معه بزيتونها وأقصاها وبيت لحمها، وجرحها المفتوح منذ أول الدهر حتى سقوط الساعة.
شاعر يمتلك لغة فيها حياة ونبض، ليس ابن قواميس فضفاضة، ولا وريث أبجدياتٍ مكرورة.. هو شاعرٌ، النص الذي ينتج عنه يشبه صاحبه، فلا أقنعةٌ، ولا أدعاء، ولا تكلف معنى وصورة وقافية..
وجهاد قصيدته ملامحه تماماً، فيها طفولةُ الحكيم ، وحكمة الطفل الذي بجناحين..
حين يتلو بصوته سورة المقاومة والصمود، تندلعُ حواليه حرائقٌ وياسمينٌ وتندفع للأعالي الفراشات..
شاعر قضية.. قضية تعادل وجوده ووجودنا، قصيدةٌ مقاتلة ومجنحة وبنت بيتٍ أصيل.. فيها ترب ونبر، وفيها دم وبندقية، وفيها استشهادٌ وانتصار وأمل..
وجهاد الحنفي سيرة إنسان كثير الجمال الانساني، والعمق الوجودي..يدرك أن الشعر رسولية وانتماء، لهذا لا يتعب من الحفرِ في هذا المدى المقفول، فلا بد أن تنفتح الشرفات، ويقف بلالُ الفجر ليصدح بصوته العالي: حيا على الجهاد، حيا على النصر..
جهاد يا صديقي الرائع.. المنبر لك.