رجل العراء
” يمكن القول بالنسبة إلي/ إن أهم ما يحدث في القرن العشرين/ هو مجيئي إلى هذا العالم/ وأهم ما سيحدث في القرن الحالي/ هو رحيلي عن هذا العالم/ وبين هذا وذاك/ يا لها من فوضى.”
العري لباس الأقوياء. لباس الأغنياء. لباس الأباطرة والقياصر والأكاسرة، ولباس الفقراء.
” حيثما توجد الأم/ فإن أحدا ينبغي أن يقع في الحب/ وبعد ذلك بوقت قصير… في الجنون.”
يا له من لباس، يوحد الناس. ويجعلهم في ثوب واحد من أدم أحمر. كلما تقدمنا منه، إتسع لنا. وكلما إنكمشنا عنه، ضاق عنا. ما أحلى العري، ينظر فيه المرء، فيرى فيه حقيقته، لا أكثر ولا أدنى. ينظم فيه روحنا، كما شعت. كما تبدت. كما لاحت. كما إلتفتت إلينا، وكما إلتفتنا إليها. روح بسعة بدن. روح شاسعة، بسعة بدن، تجري فيه أنهار من ماء ومن دماء. تحتف فيما بينها، ولايمتزج القاني بالصافي. ولا يمتزج الصافي بالقاني. يسيران معا على هدى.
“حسن عبدالله. ظل الظل. الرافدين. بغداد ط1-2024”.
يرسم عري العري، في لوحة المتجردة. يسقط النصيف عمدا بيد. ثم، إذ هو يتناوله، حتى لا يكشف عريه. حتى لا يبوح بحقيقة خبأها، في عمق روحه. جعلها هناك، حتى يفيض بها وتفيض به، في السدرة المنتهى.
“لا يكون حبا حقيقيا/ ذلك الذي لا يتجاوز الشخص المحبوب/ إلى المدى اللامتناهي الذي يمتد وراءه.”
لا شيء أعظم من عريه، في ديوانه “ظل الظل”. تراه يظللنا جميعا. ويتسع لنا، كلما تكاثرنا عليه سهاما، تسأل عن خراش، ماذا جنى لها. ماذا جنى عليها. يصوب سهمه على نفسه. ثم ينتظر قليلا، فيأتيه الجواب صدى. هكذا يمضي حسن عبدالله، من أول دفة الصدر، إلى آخر دفة الشعر. يسأل. ثم يسأل. فيأتيه الجواب صدى.
“الإنسان وحيدا/ يتحدث إلى إله بضمير المخاطب/ ومع الآخرين/ يتحدث عن الله بضمير الغائب.”
يمرق علينا سهما. يصيح علينا، كمدبر أمره: ماذا فعلتم بي. ماذا فعلتم بالوردة. لا شيء يغريه غير أن يقف عاريا قبالتنا، يقهقه على عرينا الذي لا نراه. يسخر منا، لأنا في جملة المختبئين عن الشمس. في جملة المختبئين عن الظهيرة الساطعة فينا.
“إشترى غرفة جديدة للنوم/ وعندما بدأ بإستعمالها/ إكتشف أنها كسابقاتها/ غرفة للأرق.”
حسن عبدالله، لا شيء يغريه غير أن يرى حقيقة عريه، كلما نظر في يديه. كلما نظر في مرآة عينيه. كلما لامست مرآته مرايانا. شموس من العري تفيض على الكون. تفيض عن بدن يتسع لنا.
“وحيد لدرجة أشعر معها/ بأنني لكي أستطيع أن أرى أقرب أصدقائي إلي/ ينبغي أن أستخدم الناظور.”
تراه يتقمص السابقين. يتقمص الذي إلتقوه، ذات برهة في الليالي الداجية. يصرخ على نفسه، لماذا لا تراهم كما هم: عراة ينتحلون عريك، ثم يمضون مثل لصوص الظل، يباغتون الناس في دروبهم. يقولون لهم: أنتم خزينا.
” لا القوة/ ولا الشجاعة/ ولا الذكاء/ بل الغفلة/ الغفلة فقط/ هي التي ندين لها/ بمقدرتنا على تحمل/ هول الوجود.”
“ظل الظل” يطرح الصوت علينا: تعالوا إلي بعريكم بلا خشية. فقد ضعتم كما ضاعت ظلالكم، في كهف الروح. تعالوا نجدد لكم ظلا يقي الظل الذي مرقت عليه سهامكم، وأنتم في وحشة القرى.
“شعر ضعيف/ لأنه مليء بالأصوات/ وكمية الصمت فيه / قليلة.”
لا شيء أضيع على المرء، يقول حسن عبدالله، من أن لا يرى. بلاد تجرر ذيلها، مثل عشتار، والناس عمي. كيف يكون البلاء إذا، حين نبحث فقط عن حتفنا.
” الأحرف/ التي هي حشرات اللغة/ لم أنجح بعد نصف قرن من الكتابة/ في أن أتقي لسعاتها.”
لا يضيع علينا حسن عبدالله، فرصة البحث عن حقيقتنا. يطوي أيامه يوما يوما، في سطور الريح. في أوراق الشجر. في ظلال عريشة، تشابكت عليه، حتى لا يرى.
“في ليالي الصيف الصافية/ عندما نكون على شرفة البيت أو في العراء/ فإننا نادرا ما نرفع رأسنا ونتأمل نجوم السماء.”
كلما ضجت به نفسه، صاح علينا مثل معلم دهره، كيف لا نحسن الإصغاء إلى كركرة الهنيهات تجري، بسرعة الضوء في ساعة هربت من يديه وإختبأت عليه، خلف التلال وخلف الحقول، وخلف بيدر العمر، الذي خلفه له دهره، ثم مضى.
” قلمي معتم/ أفكاري معتمة/ يداي معتمتان/ تدخل الشمس إلى غرفتي/ لكن/ لا يدخل جبل حرمون.”
حسن عبدالله، يفر من ظله إلى ظله، كأنه
قدره. ما أجمل عريه، حين يقول الحقيقة وهو يصرخ. ما أجمل ظله، حين يجعل كونه كله، يؤوب إليه ويستظله. ما أجمل حسن عبدالله وهو يشعر. يكتب ديوانه، وكأنه يتأوب!
” هرتان صغيرتان يكاد يقتلهما الضجر/ تجلسان واحدة.. بجانب الأخرى/ ثم فجأة تقفزان وتأخذان في العراك.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
صورة الكانب د. قصي الحسين