أعشاش العشب
“السماء التي ظللتني صغيرا/ كمنديل أمي/ ذوى ظلها./ والنجوم التي ومضت/ في سماء الطفولة/ نجما فنجما/ خبا جمرها./ والسواقي التي شربتني فتى/ نسيت لغة الرقص/ في جريها./ والحقول التي أكلت زهرة العمر/ ألقى صدى العمر شوكا/ على زهرها.”
الريف، أينما يكون الريف، في الوهدات، أم في الغابات، أم في حفافي السواقي. أم في بطن واد، تراه مؤلفا في حد ذاته، مثل الشعر، من ساكن ومتحرك. من حجر وعشب. وبينهما أعشاش العشب وأعشاش القصائد. هناك تبيض القبرات. وتبيض السنونوات. وكذا النورسات، إذا ما رد إليها النهر موجة، تصنع على ظهرها عشها، ثم تضع فيه قصائدها، كما سائر الشعراء، من زمن إمرئ القيس، حتى آخر شاعر، قرأت له ديوانه الصغير. رفت تحت عيوني، أجنحة، طار منها الشعر، يزقزق في أذني وفي قلبي، فأعاد إلي وعيي، أعادني الطفل الصغير.
” سلمان زين الدين. عصافير. الهيئة المصرية العامة للكتاب.2024.”
ربما يذهب الشاعر، في رحلة الزيارات الباكية، مثل عواطف الذين وقفوا على أطلال المحبوبات. مثل الذين أرادوا مراجعة الوقت والعمر والدرب. مثل الذين أرادوا مراجعة السؤال. مداواة السؤال بالسؤال. والجرح بالجرح. مثل الذين أرادوا الشفاء من أوجاعهم، فسلوا بالشعر مرهما يوميا لهم. يداوون جروحهم التي برحتهم، برقية الشعر. فسليمان زين الدين، إنما هو سليمان الرقيات. كل يوم يرقى نفسه، برقية، حتى يظل وفيا لمؤاخاة الجراح.
” هو غارق في لجة النور/ الذي يطفو على الوجه القمر/ فيروح يعكسه/ على أرض المكان/ قعدت به الأقدار/ عن نيل الوطر/ فسعت إليه بنفسها الأوطار/ تلتمس الرضى،/ ودنت قطوف قد نأت ورنت إلى أقداره/ عين الزمان.”
سلمان زين الدين، الشاعر الذي تعود أن يجوب آفاق اليمام والحمام والنوارس. الشاعر الذي تعود أن يستيقظ الأعشاب، في كنف الحجارة، تبنيه لنفسها مثل قلاع الذين عاشوا عمرهم، وراء عشبة. يغنيها . تغنيه. يهتف لها في أعماقه، ما خبأته له الآفاق من رياح. من شموس. من مطر ومن ثلج. عشب الأحجار، قال: تصلح أن أخبئ فيها قصائدي. أفردها للطير، حتى تنقرها، ثم تطير. تبيض حيث تحب أن ترى لها أجيالها، تصدح بها من جديد.
” أكتب الشعر لكي أبقى/ على قيد الحياة،/ فإذا ما ضاقت الروح/ بقيد الجسد السجن،/ وراحت تنشد الحرية الحمراء/ في جسم بديل،/ وإذا ما أشعل الشوق إلى الأصل قميصي،/ فإمتطى نهر الرحيل/ سوف أبقى في كتابي،/ رغم أنف الموت،/ شعرا للصلة.”
كل يوم تحبل الأعشاب وهي تحت حجارتها. تقول واحدة لأختها، كنت تحت حجر، أعرس بي في غفلة الزمن. وحين إلتفت إلى خيمتي. إلى قلعتي، وجدت شعرا كثيرا، كان يرويه الرواة عني.
ما أعظم الرجال حين يكونون من رواة الشعر، مثل سلمان زين الدين. يجري بين أعشابه. يجري بين أعشاشه، مثل عمود الفراهيدي. يزيد عليه. ينقص منه. ويهتف للشعر: تعالى إلي أنا أعظم من العروض!.
“قدر النهر أن يعشق البحر/ دون سواه/ وأن لا ينازعه أحد/ في لظى العشق مما عداه/ فلا بد للنهر من أن يفيء/ إلى النوم في بحره/ في المصير الأخير/ ولا بد للبحر من نهره/ في ختام المسار.”
ديوان “عصافير”، للشاعر سلمان زين الدين، يطير مثلها إلى قلوب قرائه. صغارا وكبارا، فلا فرق. لأنه يعرف كيف يسلك، مثل سلك من الذهب. حبيبات حبيبات: من لؤلؤ ومن مرجان. أفلا نلوم جيلا يسهر تحت شباكه، حتى تستيقظ قصائده، فيحملها على جنح طائر. تفتش عن عشبة، تحت حجر. بعيدا بعيدا رمتها. في الأقاصي. ولو كان تجت ركام غزة. ولو كان بمرج بن عامر.
” العصافير التي/ تزقو على أغصانها/ تصطادنا في غفلة منا،/ إذا ما أطلقت نار الأغاريد/ على أسماعنا،/ فنلبي دعوة الصياد للعرس/ الذي يشعله في حينا/ معلنا بدء مراسيم الصداح.”
سلمان زين الدين، أول السالكين إلى الأعشاب عند كل صباح. أول السالكين إلى حقول الحصاد. أول الواصلين إلى عرزال عشبة، قررت أن تعيش في عشها، تحت حجر في بلاد الجبل. كانت رفوف الحجال، تكسر الآفاق، حين تخفق لها أجنحتها. كانت تذوب مثل ندى العشب، على قصائدها. ما أحيلى عشبة، نبتت تحت حجر الشعر، في غفلة من يدين. كانت يدا سلمان بانتظارها.
“حجر أنا/ لكنني ما كنت ملموما/ ولا تنبو الحوادث والعناصر/ يا ابن مقبل، عن فؤادي،/ ولكل حادثة نصيب من عنادي،/ فالماء يشرب يابسي،/ والنار تأكل أخضري،/ والريح تسعى جهدها/ حتى تروضني،/ ويعييها جوادي.”
سلمان زين الدين الشاعر الذي جعل نواصي الشعر، تشق ريح الشمال. تشق ريح الجنوب. يردد بعد مرور العمر، على بيدر الشعر، مثلما كان يردد امرؤ القيس:
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها/ لما نسجته من جنوب وشمأل. يفتح صدره للعشب، يضمه إلى قلبه. ويبني من حجارته قلاعه.
وهل قلاع الشعر إلى من حجر وعشب.
” وكرت سبحة الأعمار/ يا عمري/ وضاقت ضفتا المجرى/ بأنهار لنا تجري/ وتنهب دربها المحفور/ بين النبع والبحر/ ونحن نراود الأنهار/ عن أسمائها الحسنى/ ونبحث خلف أحرفها/ عن معنى/ لعل النهر ينسانا/ فنفني العمر/ في تغيير مجرانا/ ولا نفنى.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين