قلق الورق
“إن السياب أدرك الأبعاد المأساوية لشخصه شكلا و ومضمونا. أي هيئة وحرمانا وحركيو سياية ناهدة ومخيبة. لكنه لم يقع في براثن الضعف فريسة سهلة. فسعى سعيا حثيثا لتحقيق ذاته، وإشباع حاجاته، وتسنم مسؤولياته.”
تعيش الكتابة على قلق، حتى تجد كاتبها. فهو العروس الذي تحلم به. تنام على بياض أيامها، حتى يكحل سطورها، ويجمل جفونها، ويسرح شعرها.
الكتابة عاشقة. تنام على النافذة. تحلم بالفارس، يأتيها من بعيد. يدهدهها. ويهدئ قلق الورق عليها.
“فيصل طالب: القلق في شعر بدر شاكر السياب. نلسن- بيروت:2024″، يمنح الورق فرصته من الوقت، حتى يهدئ من ثورته البيضاء. لا أحد أعرف من فيصل طالب، بثورة الورق الأبيض. فهي جزء من الحنين إلى الشعر. وهي جزء من الحنين إلى النثر. يبيت في زورق الأدب، يجذف الليل بطوله، حتى تقع له النجمات. تضيء المساحة البيضاء ويشع على الورق سحر الحبر الأسود عند طلوع الفجر.
“هذة المدينة عبثت بصمت المقابر. وأشعلت نارها في ظلام الأموات. فلم ترحم هدأتهم لا في الحياة ولا في الممات. بل إنقضت عليهم تبعثر ما تبقى من رميم عظامهم على الطرقات، وتحت العجلات…. فهل يمكن لهذة المدينة التي لم ترحم أبناءها وهم أحياء، أن تخشى رهبة الموت. أو أن تقيم لهجعة الأموات وزنا وقيمة وإحتراما؟”.
فيصل طالب، شاعر كريم النسب إلى الشعر، منذ يفاعته. وأديب عفيف النثر، منذ بنى عرزاله في حقول الأدب. ونادى على الطير، أن تحط على يديه، تنقر القمح يساقط من عينيه حقولا حقولا. وتنقر الحب، من نبعة القلب ومن نبع السكر.
هذة الدراسة المتقدمة في الزمان، المتأخرة على زمن النشر، إنما هي حصيلة ثقافته المتنورة والمتألمة و المتواضعة، في آن. بناها تحت سفوح جبل المكمل. وكاد يطال النجوم بها.
“لقد إستحال أثر هذا الحب الاول “قوة داخلية، تيارا كهربائيا خفيا… لكن الحب دائزا لا يفهم إلا في الإطار الريفي، لا أبعاد له إلا النخلة والنهر والمحار والكوخ على ربوة مطلة على صفحة الجدول.”
ليس غريبا، على أديب وشاعر وناقد، مثل فيصل طالب، أن يأتدب على مائدة بدر شاكر السياب، وهو الذي يحفظ شعره، عن ظهر غيب. يهدئ كل يوم بسطور الكتابة قلق الورق. حتى إستطاع أن يبني كل هذا الهرم النقدي، عن شاعر، كثر الساعون لبناء أهراماتهم، على أرض شعره الخصبة. فأخفقوا، ونجح الأستاذ فيصل.
“هكذا تعقب بدر خطى أورفيوس نحو يوريدايس في العام السفلي، لإحكام صلته بوفيقة. أي ربط عالم الموت في الحياة بعالم الحياة في الموت، وصولا إلى إحياء المثال في عالم آخر، غير الذي يعيشه إندثارا في إحساسه الواقعي!”.
ترى بناءه النقدي، مشدودا إلى أرض صلبة. هي من بعض ثقافته التي طمحت به، ليكون ذات صيف، مديرا عاما للثقافة. ولو شاء أن يظل عمره كله، يتابع بدرا لما مل. وكل شعر بدر عن اللحاق به، في فصوله الشتى.
“كأني طائر بحر غريب/ طوى البحر عند المغيب/ وطاف بشباكك الأزرق/ يريد إلتجاء إليه/ من الليل يربد عن جانبيه/ فلم تفتحي.”
فيصل طالب، يصدر كتابه القلق، في عمره القلق، عن القلق في شعر بدر شاكر السياب، وهو الأحرى به أن يقيم من النقد جسرا للتواصل، بين القدامة والحداثة.
“تبقى صورة الحبيبة المنتظرة تلوح في أفق الخيال. وتطل عليه ظلا… يخبئ بقية من سهام، كادت جعبته تفرغ منها للحب المرصود، الذي سيولد ذات يوم، لا محالة.”.
أفاد فيصل طالب من كل العلوم. كان يهدئ فقط قلق الورق. نسج نقده على جميع المناهج، حتى لا تغيب عنه شاردة ولا واردة.
” يرد على الإصرار على الحياة، بإصرار أشد على الموت. إنه زمن التحجر والهلاك.”.
نجح فيصل طالب، حيث أخفق الآخرون. دراسة، ولو تأخر نشرها، فقد أفادت من ذلك غنى.
تجربة فيصل طالب، في كتابه النقدي، الذي إختار موضوعة من أعذب الموضوعات وأخطرها في شعر بدر شاكر السياب، تجربة تحتذى. هدأ بها قلق الورق، حين أخفق قلب بدر. وهذا لعمري، غاية الأديب الحصيف، والنقد المرتجى.
” هكذا يصطدم السياب من جديد بلا جدوى الموت الؤيوي، كما كان من قبل، قد وجد في الموت النضالي عجزا عن تحقيق الرؤى والأحلام التغييرية.”.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.