ساسين عساف وسوسيولوجيا النقد الأدبي
“الأدب هو الزنبق في صحارى الدم المجفف والقديد…. الأدب هو الطبق الأشهى، بعيدا عن موائد القتل والإفناء والتدمير.”
ما ينقص النقد الأدبي حقا، هو أن نحيطه ضمن رؤيا سوسيولوجية بصيرة به. فنخرج من دائرة النقد القديم. وكذلك من دائرة النقد الحديث. ونعيد النظر بالأدب، نثرا وشعرا، على ضوء إنتظامه في دائرة الضوء السوسيولوجية. بحيث ينهض الناقد لقراءة الأعمال، بحكم إقترانها بالمجتمعات التي تبيأت فيها. وهذا ما فعله الدكتور ساسين عساف:
” مقاربات في النقد الأدبي التطبيقي. منشورات منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحادة. بيروت – 2024″.
الإهداء: إلى “روح الشاعر عبدالله شحاده شاعر القيم والمبادئ والمواقف والثورة على المفاسد بيان وفائي له تلميذاً في ثانوية البترون الرسمية يوم أدارها بالحكمة المثلى والتوجيه البنّاء والعطاء السخيّ .. له في ذاكرة الجيل عطر الحضور الكافي لإرضاء روحه في عليائها”.
ويكتب ساسين عساف في كتابه : ” تقرأ في الصحيفة ما سموه أدبا، فتحار أأدب هو هذا أم أخبار الوفيات هي الأدب؟ تقرأ ثم تقرأ وتعيد. ينتابك الغثيان، تصحو على حجم المؤامرة، مكشوفة الصدر تقرأها. تقرأ فيها وجه العابثين. تقرأ الطاووس المزيف فيها. زهوة الطاووس يمشيها الصغار.”
ساسين عساف يذهب إلى النقد بعدة الباحث السوسيولوجي. يختار الموضوعات الأدبية الصالحة للمراجعة النقدية، على ضوء السوسيولوجيا. فهو إعتمد هذا المنهج تطبيقيا، دون أن يصرح مسبقا به. تراه يصنف أبحاثه، بين نثر وشعر. وتراه يسعى لجمع مواده، بحسب ما يستدل على بشارة سوسيولوجية غير معلنة. وهذا هو في الواقع، عمل الناقد السوسيولجي الحصيف، الذي لا يأتي إلى السهولة. بل يأتي الصعوبة والمكابدة، ولو إستغرق منه العمل زمنا طويلا. ولو إنشغل به أيضا، بحقول عديدة،ولو سعى كذلك وراء أسماء متباعدة. مادام هدفه الوصول إلى البرهان الساطع، على أن النقد، ليس مدحا ولا هجاء، على طريقة القدماء، وإنما هو عميق في الحياة الإجتماعية. بحث نقدي سوسيولوجي، ينهض للرائي، من خلال ما هو مؤثر في المجتمع، على جميع الصعد.
” يبدأ سليم حيدر بطرح ما للكلمة من أهمية في تحويل الفكر إلى واقع حي. فالفكر بدون كلمة هباء، هيولى، مادة سديمية، لا كيان لها، ولا وجود كما تقول الفلسفة. والكلمة هي وسيلته إلى الكينونة، إلى الوجود، إنه يتكين مع الكلمة، وبها ومنها يستمد وجوده. بهذا المعنى تكون الكلمة وسيلة إنتظام الوجود. فمعها ومنها وبها، كما قلت تسقط محالية الوجود ويتبدد السديم، وتأخذ الهيولى شكلها، كما المادة المبعثرة والمشوشة، إنتظامها وإتضاحها.”
الكاتب والناقد ساسين عساف
يستقرئ الناقد ساسين عساف العينات من النصوص التي تتصل إتصالا حثيثا بالواقع الإجتماعي. يناقشها ويحاورها وينقدها، بلا محاباة ولا دجل نقدي، بغية الإستدلال على ترابطها بأرض المجتمع. ذلك لأنه يعتبر أن المجتمع هو الأصل. وهو التربة الذي أنبتت هذا النوع من الأدب أو ذاك.
“فالعلايلي ليس مدرسيا متزمتا، بل صاحب منهج فكري إجتهادي متحرك. ينابذ التسلط ويقابس العقول ويخرج النظريات اللغوية الحديثة، من رحم النظريات القديمة. وهو بالمقابل، ليس عدميا فوضويا… منهجه في مبحث التأصيل اللغوي، ينطلق من نقطة التحول، إلى الدخول في حرم الكلمة…بفعل الطريقة الحياتية…”
لدى ساسين عساف نقد رؤيوي إجتماعي، يتبعه، في اللغة كما في الأدب. فهو يربط هذا العالم الواسع من الأدب، بأرض الواقع، بما هو واقع متحرك، بحراك سوسيولجي، لا يتأباه الناس في مجتمعاتهم المعاشة. لأن الأدب في حقيقة أمره، هو أدب مجتمعي حي معاش. يضؤل بضآلة المجتمع. ويعظم بعظمة المجتمع. ويطغى بطغيانه أيضا. لم لا!
” الشاعر القروي من أعلام الأمة المقيمين في ضميرها والذاكرة… إبن الجغرافيا الضيقة، قرية البربارة، المفتوحة على إمتداد الأبيض المتوسط، لم تعزله “عبقرية المكان” عن عمقه الصحراوي. إلتحامه بهذا العمق، لم يضعف تواصله بالآخر. يقول:
بحبل ديني وعلمي/ وصلت شرقا بغرب”.
دؤوب ساسين عساف في عمله النقدي، على رؤياه السوسيولوجية في القراءة النقدية. وهذا ما لم يتبعه أحد غيره، في قراءة آثار الأدباء والشعراء واللغويين الحداثويين والمعاصرين. فهذ هو هم يسكنه، من أول الكتاب إلى آخره. وقلما رأيته يند عن هذة الطريق التي إختارها للسير ناقدا حصيفا جديا بكل معنى الكلمة.
” أبهى ما في هذة اللحظة إستحضار وجه عبريني( نسبة إلى بلدة عبرين)، أصيل. شققه التعب الحلال. هذا الرجل ليس من عابري الذاكرات من دون أثر. بل من ألطف المقيمين فيها من دون إزعاج… خفة روحه وسلاسة طبعه وسماحة نفسه… جعلت شعره، يروق ويؤنس…”
ساسين عساف، واحد من النقاد الذين إندفعوا يترجمون الوقائع السوسيولوجية في الأدب والشعر واللغة. وهو عمل شاقه كثيرا، فكان له أن يحققه بعد طول إنتظار.
” من المؤكد أن نيتشه مفكر وعبقري وفيلسوف فطري مبتكر. وأديب محلق. وفلسفته تعكس ذهنه الغريب في أطواره والمريض واللامتوازن في أحواله. إذ كان يصاب بأعراض جنون في حياته وتفكيره. لهذا لا يصلح في رأينا أن يكون نموذجا لأصحاب العقول السوية وجبران خليل جبران واحد منها، على الرغم مما يأتلف فيه معه في “العواصف” و “يوحنا المجنون…”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين