القراءة النقدية الأولى في كتاب:
رَسَائِلُ إِلَى بَحَّارٍ وَرَسَائِلُ أُخْرَى
للكاتبة التونسية سليمى السرايري
~~&~~
من تفاصيل الكتابة إلى كتابة التفاصيل
شَهادة الدكتور الشاعر والناقد مراد العصيدي/تونس
تحيط الكتابة عند سليمى السرايري بمجموعة من الخصائص، ولا يمكن للقارئ دركها إلاّ إذا امتلك مجموعة من المفاتيح التي تساعده على تفكيك شفراتها، ولعلّ مدخل شعرية التّفاصيل يمثل ـ بوجه ما ـ أهمّ المداخل التي تدفعنا إلى فهم هذا النص وتبيّن مستوياته الفنّية.
وإذ تغوص نصوص الشّاعرة في بنية أدب الترسّل أو “الإخوانيّات” فإنّ ذلك لا يمثّل إلاّ إطارا عامّا للكتابة عندها، ذلك أن مشروعها الإبداعي ينبني مضمّنا داخل سياق المرسل والمرسل إليه. فتتشكّل شعرية التفاصيل عندها بوسائل ومقومات فتحت نصّها على بنية مدهشة وعلى مناخات أسلوبيّة شتّى، ويمكن أن نختزلها في النّقاط الثّلاث التّالية: تفاصيل التوزيع النصّي فتفاصيل اللغة البصريّة وتفاصيل العلامات.
تفاصيل التوزيع النصي:
كتاب الشاعرة (رسائل إلى بحّار) متعدد العناوين، طاقة من العتبات، عنوان رئيس وعناوين فرعية وإهداء وتصدير وهوامش. وإنّ القارئ لهذا الكتاب يظل مأخوذا بنصية العناوين ووظائفها، ولذلك فهو مدفوع إلى استنطاقها وتبيّن معانيها الحافة، فقد تنزّلت هذه العناوين نصّا مختزلا ستشرع فيه المتون بالتفصيل، وأي تفصيل، هنا لا بدّ من درك العلاقة بين العتبات والمتون، علاقات سعت الشّاعرة إلى بنائها على قوانين المخالفة والانزياح، إذ يحضر الوصف الدّقيق، وتتشكّل دقائق الأحداث، وتراوح سليمى في ذلك بين دوالّ لغويّة مختلفة وعلامات بصريّة متنوّعة.
تفاصيل اللّغة البصرية:
اللّغة في رسائل الشّاعرة معقودة بمنطق التّداخل بين الحسّي والرّمزي، وهي إلى ذلك مفتوحة على مدلولات عديدة، يقتنصها القارئ حين يطالع نصّ الشاعرة وقد رصّفت مفرداتها ترصيفا بنائيا مدروسا، فظلّ مفعما بطاقة وجدانية كبيرة تجلّت في حالات الانتظار والحبّ والرّغبة والجسد، وتناهت في إيحاء الشّهوة والقبلات والعناق، وانتهت في تفاصيل لذيذة استطاعت من خلالها الذّات الشّاعرة أن تتابع حبّة المطر وهي بصدد النّزول وتحايث حركتها من طور الانعتاق إلى طور الارتطام بالأرض.
إنّ نص سليمى السرايري نص حيّ يتنفّس، يعقد ـ جندريّا ـ بين أنثويّة الشّاعرة وأنثويّة اللّغة، تلك هي شعريّة التّفاصيل التي نرمي إلى دركها والتي يتكاتف فيها الدّيني مع الصّوفي، والأسطوريّ مع الفلسفي، واللّغويّ مع غير اللّغوي. وقد يتبادر إلى الذّهن أنها تكرع من معين جبرانيّ، وتغترف من معاني روّاد الرّومنطيقيّة، فتحيط بالذّات وتمتلئ بها، لتنشئ معنى أثيلا مختزلا في الإلهام أوفي النّبوة، إلاّ أنّها، وهي التي لا تؤمن بالحدود الأجناسية فيما نعتقد تحتفل بلغة سائلة غنائية ومنهمرة من معدن الجواهر، وتحتفي بصور مفتوحة على الأفهام مشدودة إلى اليوميّ المعيش، ولذلك غالبا ما أنبنت المعاني في نصّها انبناء تقابل وتضادّ:
الأضواء والعتمة، الضّيق والشّساعة، القرب والبعد، الصّمت والضّجيج، الفرح والحزن.
إنّها تفاصيل العالم الحبلى بالمتناقضات والثّنائيات ألقتها الشاعرة فوق بياض الورق لتتناسل وتتكامل، إذ ليس هناك طرف مكتمل دون الطّرف الآخر.
تفاصيل العلامات:
لكأنّ نصّ سليمى السّرايري لوحة أو مشهد، نص رَاءٍ محفوفٌ بدوالّ بصريّة مختلفة، دوالّ تشكّلت من لغة كالفرشاة، معقودة بجماليّة الألوان الواصفة، فإذا في اللّون الأحمر يتوشّح المعطف، وإذا الأخضر يحفّ بالغاب والغابات والعشب والرّوح والدّوحة والدّوالي والشّاي، وإذا الأزرق مجال الفضاءات الملكيّة والعطر والرقّة والعظمة والامتداد، وإذا الأبيض ناصع كغزال أو كجناح أو كإله النّهر لأبيض وإذا الأبيض جواد أو ثوب أو فستان، وإذا الأسود منعقد بالياسمين، وأي ياسمين، ليبقي الأصفر شبيها بـــ “زُجَاجَة نَبِيذٍ عَتِيقٍ”
إن حزمة هذه الألوان قد منحت لغة الشّاعرة حركة تشكيليّة حوّلت نصها من اللغوي إلى الدّلائلي، وقد يتعمّق هذا المنحى حين ندرك أن الشّاعرة قد جاورته بوصف استأنس بقنوات حسّية موازيّة كالسّمع والشمّ والتّذوّق، فإذا نصّها إطار فنّي للجسد بأن يفعل ويتفاعل وينفعل، وبقدر ما اشتغلت الشّاعرة ببلاغة الدّوال اللّغوية فقد جعلت من فضائها الكتابيّ مجالا لعلامات غير لغوية أبرزها الفراغات والتّنقيط وعلامات التعجّب والاستفهام لتصل نصّها بتقنيات العمل السّينمائي ولتؤكّد أنّ كتابتها موصولة بالتّشكيل، نافرة من مقولة الأجناس.
وإجمالا، فإنّ نصّ سليمى السّرايري ولئن احتفى بوهج عاطفيّ وذاتيّ فهو إلى الوعي مشدود بناء وشكلا وتشكيلا، فالكتابة عند الشاعرة، فيما نقدّر، ليست وحيا أو ارتجالا واللّغة ليست عمياء، إنما هي تبصر مواضع أقدار الكلام على أقدار المعاني.
الناقد د. مراد العصيدي والشاعرة سليمى السرايري
شكرا أثيلا للموقع اللبناني “ميزان الزمان” ولرئيس التحرير الكاتب والاعلامي يوسف رقة على توثيق ونشر قراءة الدكتور مراد العصيدي في منجزي الجديد: “رسائل إلى بحّار ورسائل أخرى”
لكم فائق التقدير والاحترام والامتنان
قراءة ممتعة ومفيدة سبرت مكامن نص الشاعرة سليمى السرايري…شكري وتقديري