كتبت الأديبة والمربيّة التربوية السيدة ذكاء الحر ، كلمة مؤثرة لمناسبة الذكرى السنوية لغياب زوجها الفنان التشكيلي والأديب الكاتب المسرحي محمد على الخطيب .
بورتريه للأديبة ذكاء الحرّ زوجة الفنان محمد علي الخطيب بريشته ، ( وهي لوحة زيتية من المرحلة الضوئية في ثمانينيات القرن الماضي).
في الذكرى السنوية الأولى لغياب الفنان والأديب والمسرحي محمد علي الخطيب، كتبت الأديبة والتربوية ذكاء الحرّ :
مرَ عام، و حقل أحزاني ما زالت تعلو سنابله، تعلو لتلامس جدران الروح الملأى بالوجع و الأنين. أوراق البوح تغزوها لتغمرها أوراق الصمت العابق بالحنين. ما زال وجعي يعضَني بمخالب مسمارية.
ماذا أقول بعد الغياب المُحكم التوقيت. فقدرك أن لا يطول بعادك عن باسل كثيراً. و قدرك أن لا ترى قوى البغي و التدمير تدكَ كل معالم الحياة، و تستبيح كل ذرات تراب أرض العزَة.
ماذا كنت كتبت بالكلمة أو باللون و أنت ترى كيف انطفأت كلَ مصابيح العدل و الحق و الإنسانية في العالم كله؟! و في عالمنا العربي و هذا الأكثر إيذاءً و إيلاماً !! لكن ثق أنني ما زلت على نهجك و أشعر بانتمائي العميق إلى أمة ذات تاريخ ينضح بالإباء و الكرامة و الكرم بالبطولة و العطاء. و لعلك تستغرب معي كيف يُسرق من هذه الأمة الإباء، و كيف اغتيلت أمجاد السيف و القلم.
عدد من لوحات الفنان محمد علي الخطيب بألوان الزيت و لوحة “النهر” بالوان الاقلام الخشبية
crayon de couleur
أخبرك و بالفم الملآن أن زمننا هذا هو زمن تداعي الإنسانية و القومية و الوطنية و كل القيم المُثلى التي تحتضنُها و تختزنُها في رحم التوالد و الامتداد بنماءٍ مبهرٍ لأنه مُثقل برحيق الانتماء الأصيل المُتلاقح مع إبداع الظرف المعاصر.
أبا باسل، نحن في زمنٍ تدوسنا خُطاه بقسوتها و ثقلها، فمع ثقافة الافتراس الصهيونية المُعولمة تهاوت ملامح فروسيتنا العربية المُشبعة بالقيم، اللَهم، إلا من قلة متمايزة، مضيئة و مُضاءة بنورانية الحق و الايمان و سموَ التضحية.
رفيق الدرب و التسامي فنَاً و لون حياة، أودَ أن تثق بأنك كنت الصواب بعينه في خياراتك و مواقفك و ابداعاتك. فها هي اليوم تنطق عنك و عن جدية رؤاك و نقاء حسك الجمالي الفني و المستقبلي. كنت رائداً و غدوت أكثر ريادة، فها لوحاتك و ألوانك و قصائدك و مسرحياتك تجعلك شاهداً على عصرٍ لست فيه بجسدك، لكن بروحك و إلهامك و عبقرية فنك و بصيرتك و صدق معاناتك و وعيك.
أنت و فنك أحياء أحياء أحياء، و الأمة بغالبيتها كأنها في حالة احتضار، أو حالة عدم الإستجابة، و بعض الأمة غارق في حالات الانحراف.
أمتك تحتضر، و أنت ما زلت كما كنت، ما زلت الإبداع المُكتفي بذاته، المُنصهر في تجلياتك اللونية و اللغوية كرحيقٍ صافٍ و مكثف لوجودك الاجتماعي و السياسي و الثقافي و الفلسفي و الكوني.
و أنت صامت الآن في عليائك السماوية تضجَ جمالاً و ألقاً و انتماءً، و في ضجيجك تمايز و فرادة و كأنك ذو حبل سريَ مع توثُب النبوءة المستقبلية.
أنت بلسم هذه المرحلة و نورانيتها لي و لأبناء أمتك الأنقياء بالرغم من اتساع فوهة الوجع التي تقذف حمماً من الآلام، آلام الذات و المرحلة و الأرض و الانتماء. أعرف أنك تتألم لأجلنا، و لو كنت معنا لأضأت بفنك بعض عتماتنا، و لما تركت الليل يتسلَق سلَم أعمارنا. أعرف أنك كنت ستحوَل الجراح إلى أقواس قزح خالدة، لذا أنت دائم الحضور و الإبهار مُتحدياً حركة الزمن بسرَ العبقرية الحضارية المُتجسَدة فناً و حقاً و جمالاً. ثق بأن شجرة فنك ستظلَ وارفة مُثقلة بالجنى و لها حكايتها المذهلة لشدَة محاكاتها للواقع المأزوم والذي يزداد أزمات و ايلاماً. سرَك في فنك كسِرَ التراجيديات الاغريقية الدائمة الحضور في أمداء الزمن و الإبداع الفني و الألق السحري فكراً و رؤى وجودية و وجدانية عميقة بعيدة المسافات.
(صورة الفنان مع زوجته الأديبة ذُكاء الحر في صالونهما المليء باللوحات في صيدا .2016.)
أرسل لك بسمة اعجابي و انبهاري و حبي، ففنك كان و ما زال مرآة لذاتي، و أظن أنها ستغدو مرآة لأمة منكسرة اليوم، و لكن تراثك الأدبي و الفني سيصدح مُترنَماً يوم تعي هذه الأمة ذاتها، و ابداعاتها، و نبوغ ابنائها المصطفين. جُمود هذه الأمة راهناً – و هو سبب من أسباب بلائها و بلاهتها و مصائبها – لن يستمرَ، فالتحولات هي من ثوابت حركة التاريخ. حضارات كثيرة و قوى سياسية و اقتصادية سادت ثم بادت. و دوماً كان العقل الذي يحمل بذور الفكر و المعرفة و الابتكار يعود ليعلن سيادته و تفوقه و انحيازه للخير و الحق و الجمال.
صحيح أن العالم كله اليوم مريض قاتل، فشرايين العالم موصولة ببعضها، تنزف في بعضه، فهل يمكن أن تستمر الأجزاء الأخرى سليمة؟! ما زلنا ننتظر كُوَة تُفتح لحدوث استقرارٍ ما في ظل هذا النزف العاصف يوميَاً بلا صيحات ضمير فاعل حاسم النبرة و الموقف. كل أحداث يومنا تُرغمنا، و بخاصة في ذكرى غيابك هذه، على الجهرِ و بكل قوة الحناجر: أنك جسَدت فعلاً و قولاً و عملاً و سلوكاً و خُلقاً آمال أمتك و آلامها. فأنت بكل ما أنجزت و أبدعت دليل دامغ على ما قاله الكبير نزار قباني مرة في أن “شروط الانتساب لنادينا بسيطةٌ جداً ، و هو أن يكون طالب الانتساب عربياً منذ ولادته، و أن يترك على باب النادي كل عقده الاقليمية و الفئوية و الأنانية، و كل ميراثه القبلي، و أن يكون مستعداً أن يتزوج الوطن في أية لحظة. الزواج من امرأة و الزواج من وطن مشروع قومي واحد، و لا تصدقوا من يقول لكم أن المرأة شيء و الوطن شيء آخر. فعندما يختار الرجل امرأة ليسكن معها أو ليسكن إليها، فهذا يعني أنه اختار وطناً”.
سلامٌ عليك في علياء مثواك، و ستظلَ حتى اللقاء منارة تضيء عالمي و العالم بثراء الفن و الجمال و نور الحق و الحرية.
ذكاء الحر الخطيب
6 -5- 20204
لوحة “وطني” بريشة الفنان محمد علي الخطيب (1983). تُصور عائلته المؤلفة حينها من زوجته ذكاء الحر، وولديه باسل وإياد إذ لم تكن ابنته رنيم قد ولدت بعد. وقد رسمها الفنان وهو في المنفى حيث كان مُبعداً عن الجنوب بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان. ورسمها من الذاكرة من دون صور لوجوه عائلته او حضور شخصي لهم امامه. ولعل احساسه بالوحدة والبعد عن العائلة جعله حينها يسمي اللوحة “وطني” وهذا يتناغم تماماً مع ما قاله الشاعر نزار قباني عن الوطن والعائلة.