حكمة المنفرد
“نهض كالمذعور من سريره. ونظر يمنة ويسرة عله يدرك مصدر الصوت. وبعد ان إسترد هدوءه، خاطب نفسه قائلا: سأجتاز السهول والجبال. والروابط التي تمنعني من المعرفة والإستنارة. زفت الساعة لسلوك حياة الوحدة، بغية بلوغ طريق الخلاص”.
طلب الحكمة قديم قدم الدهر. يشعر طالبوها بضيق. بتضايق. بأنهم يعيشون في المضائق ويعانون من المضايقات. فينفرون إلى عزلة الجزر، كما فعل روبنسون كريزويه. أو إلى قنن أو قمم الجبال، كما فعل الأنبياء والمتوحدون والمتحدون مع الله والطبيعة. أو كما فعل الفلاسفة والمفكرون، حين إختاروا المغر والكهوف. أو حين ساحوا في البرية. يلبسون المسوح وينشدون الحرية. يلتقطون الحكمة والقالة النادرة، والفلسفة والفكرة من مظانها. يحملونها على أكتافهم، مثل أكياس القمح، وينثرونها في البراري، لتكون أغراسا. ولتكون في بطون الطير. ينشأ الجيل بعد الجيل عليها. هكذا كانوا يؤملون. هكذا كان مأمل الكتاب الرائد الذي لا يخذل أهله:
” وفيق غريزي. المنفرد. لبنان- عاليه2021: 212 ص. تقريبا”.
” آه أشجار نفسي تنحني أغصانها تحت ثقل ثمارها الناضجة. فأين الجوعى لا يجدون هذة الثمار الشهية ويسدون بها أفواه الجوع الصارخةفي الصحراء؟….إنها كالشمس تسطع على الجميع”.
مجموعة الأوراق التي دبج فيها المؤلف تجربته، وجعلها بين أيدينا، إنما تنطوي على الحكمة والفلسفة والأفكار التي تسبق عصرها. فقد أرادها ان تكون للأجيال التي لم تولد بعد، على حد قوله:
” كتاب للأجيال المتنورة التي لم تولد بعد.. أخطر الطرق أيها الأحبة، هي الطرق بين القطعان. فحدسي يقودني إلى مسلك الحق والحقيقة. المزين بأكاليل السلام وأزاهير السكينة.”
كتاب المجموعة ال95، إنما يحمل بين دفتيه، العناوين التي تدل عليه. ينتقل المؤلف في مقالاته بين: حقيقة الحكمة والحصاد الأول والمتوحد وإكتمال العالم، إلى الحديث عن قطعان الخراف وحظائر البهائم والعفة والشهوات الترابية ومدينة الألوان ونشيد الشاعر واللقاء الأخير.
” إخرقوا ذواتكم لتبعثوا الدفء في النفوس المتجلدة. علها تلين….كل فرد منكم المتوحد النفرد”.
هذة العينات الملتقطة بعفوية، من فهرست الكتاب، إنما تشي بإصرار المؤلف على المكاشفة والمفاتحة، والمناقشة، في جميع العناوين والموضوعات التي تهم الإنسان، وتحيا بها الإنسانية.
“كلماتي تسقط عليكم من شجرة أفكاري، لتنقلوا رحيق معانيها، ومضامينها المختزنة، وتغدق على عقولكم وأرواحكم الغبطة والمعرفة”.
يهتم صاحب المنفرد، بتسليط الأضواء على المعاني الإنسانية النبيلة. يريد النأي بها عن التشوهات المرضية، التي ترضي أصحاب الغايات. يريد الحكمة الزلال من ينابيعها الصافية. يخبئها في الجرار المعتقة في كهف الروح. ثم ينتظر النضوج في المواسم التالية. فكل ما يكنزه في أعماقه، هو للأجيال الآتية، لا للاجيال الحاضرة. كأنه يريد الخمرة المعتقة، لا الخمرة من الكروم المعتصرة.
“من رحم المرأة يولد الإنسان، يعيش ايام عمره بألم وعذاب وقلق. كالنبتة ما أن تتفتح براعمها، حتى تذبل وتذوي وتتناثر أوراقها مع الريح. وكالظل يكبر ثم يتلاشى ويختفي”.
وفيق الغريز، شاعر وفيلسوف ومفكر. تصفه مجموعته الجديدة، بأنه الإنسان المنفرد، المتفرد، الذي يعيش البرهة القادمة، في برهته الحاضرة. إنه أستطلاعي، بقدر ما هو رجل المختبر اليومي. بقدر ما هو رجل الحكمة اليومية. إنه قائف الأمكنة والأزمنة. يعرف السر وأخفى.
“تمتزج في داخلي كل العناصر/ النار والهواء والتراب والماء/ أنا ذاتا وإسما يختصر الأسماء والأشكال/ أنا الوعي الذي يستوعب الوجود/ ويفك طلاسم الألغاز”.
وفيق غريزي، ليس الرجل المناسب للمهادنات. ولا للمهل المسترخية على حوافي الزمن. إنه الرجل المتقد. وكل كلمة يقولها، يجب أن تكون نافدة. يجب أن تكون نافذة. يجب أن تكون البحر والشراع والنسمة والغيمة الحالمة بالمطرة القادمة.
“لتنهار الأبنية المزعزعة تحت أقدام الحقيقة، فعلى أنقاضها سيعلو بناء متينا شامخا مزدانا بالأنوار الإيمانية الساطعة”.
في مجموعة مقالاته الأخيرة: “المنفرد”، يظهر علينا توفيق الغريزي الحالم بالرسالة، وقد وصلت إلى أيدي أصحابها. يتخذونها بوصلة لتربية الأجيال القادمة، بعدما عانت البشرية كلها، من أمراض العصر. ها هو يكتب اليوم ما يقرأ غدا، لأنه لم يعد واثقا، بالأجيال الملوثة.
“يجب على الكائن الإنسان الراقي أن يلجم شياطين الشهوات. ويوقف جموحها تجنبا لوقوعه في الدناءة والمجون. وليظل عقله متوهجا.”
وفيق الغريزي النقي، يطالب بالطهرية. وينتظر ولو ملء السنين، حتى يفقه المتأدبون، معنى مأدبته. فيهرعون إلى كتابه، يأتدبون به. وينفرون متفردين في دنيا التبشير بالإنسان المنفرد. بالإنسان المتوحد. بإنسان الوحدانية الصافية. يقدم حكمة المنفرد، للأجيال التي تستحقها!.
“آه، أيها الأحباء، ما أحقر الرجال الذين يظنون أن لهم عقلين، في حين أنهم يعلمون أنهم لا يملكون عقلا”.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين