“الحرباء ليست دائما خضراء”
قصة قصيرة للكاتب الروائي د. الياس العطروني
******
-1-
نسائم فجر باردة تلفح بنعومة حافة الجرف ، تدفع قبائل زهور متنوّعة لتمايل ناعس يعيدها لغمرة أحضان ليل انقضى .
نرجسة استفاقت لتوّها تنفض عن جبينها قطرة ندى ، تقول لأختها :
– الصمت في هذا الجرف يوحدّ الليل والنهار … هل الصمت دائما رفيق القمم ؟
– لم أكن قط في مكان آخر لأعرف … قريبا تطلع الشمس …
– لتعود فتذهب .. هل الأمكنة كلّها بشمس تأتي لتذهب ؟ .. لم أكن قط في مكان آخر لأعرف .. لكن قد يكون الأمر متعلقّا بنوم ويقظة ..
– وما الفرق ؟ … لن نرى في نوم ، ما لم نشاهده في يقظة … نحن بنات هذا الجرف ، ولدنا هنا وهنا نموت .
– أهي كذلك أيضا ؟…
كانت الزهرة سوداء ، فاحمة ، غريبة التفرّد ، تتمايل أقل بقامة سامقة … وحيدة .. وحيدة … على نصل الشفير .. لم يكن الجرف قد ولد زهرة مثلها قط ، خلاسية لقاحها ربما !… قدرها مع نسائم جرف وشفير حافة … ربما ! …
حزينة … حزينة… بسمة ضائعة وسكون أسود …
-انظري … إنها أكثر منّا تباهياً … الخيلاء في رحيقها … أترين ؟ …
– أرى ماذا ؟ الرحيق لا يُرى … علمت بالأمس فقط أنها مرصودة … محكومون نحن بحياة وموت ، هي تملك أمل التبدّف … تعيش عليه ، جعلتها الريح محجة لكائن متحرك مجهول إن لامسها تبدّل وتتبدّلت ، ينصهران في كيان ثالث حتى الريح قد تجهل ماهيّته …
-2-
اقتربت الحرباء الرمادية من قمّة الجرف ، كانت نسائم الفجر الباردة تدفعها صعودا ، التراب المرطّب بندى يوم جديد يبردّها ، ليل تسلّق متعب انقضى …
-يجب أن أكون فوق ، قبل وصول الشمس ..هكذا، ولا يجب أن أعلم لماذا …
هل الذي فوق يزيل عني لعنة الالتصاق الأبدي بالأرض ؟ …خطوات قليلة وتصل …
تقول : ليس مذلّتي في التصاقي الدائم بالتراب … بل في ارتدائي لون أي شيء أقف عليه … لو أستطيع الاحتفاظ بلون واحد …
خطوات أقل وتصل …
تقول : حرباء وقدري في قمة جرف !… أكان قدراً أيضا أن امتثل لإيحاء مجنون ؟ …
خطوتها الأخيرة جعلت عينيها في مستوى حقل قبائل النرجس ، بهرتها الروعة ، السماء خلف الجرف تبدو أخرى !… وتلك النرجسات المستكينات الساكنات القمة تبدو أخرى ! .. وتلك !؟… أزهرة في حداد ؟!…
لم أشاهد في حياتي زهرة كاملة سوداء ، إن مسستها سأصبح سوداء … لم أكن سوداء قبلا …
نفس الريح تدفعها .. نفساَ عميقا وتكمل … تقف جانبها كجمل حَرِن ! … همسٌ خجول بداخلها …
اقتربي … التصقي بي .. التصقي بي …
كان النداء مستجدياً سلب حواسها وأضاع قرارها …
– سأصبح سوداء …
– لن تصبحي سوداء … سأصبح وإياك شيئا آخر غيرنا .
– قد أصبح اقل من حرباء …
– وقد تصبحين إبداعا وروعة …
– لا أحب المجهول …
– مهما يكن … أفضل من معلومك …
كان الصوت الثالث حاسما ، حاداً ، مُصَفِّراً كمرور ريح جادة في شقوق قمة جرف …
– حواركما طال … ستكونان امرأة !… ستكونان امرأة وجميلة ومرصودة !…
– وكيف ؟ …
ظهر الهتاف المشترك كاستغاثة شوق …
– ستكونان امرأة جميلة ومرصودة كما قلت …
– مرصودة ؟ّ!…
– مرصودة ؟!…
– “رصدك إن أحببت وسعدت وصدقت ونطقت ” تعودين حرباء رمادية تائهة في جرود الضياع وزهرة سوداء تتوحد في قمة جرف تقتلها العزلة … موافقتان ؟…
حنت الحرباء رأسها … أمالت الزهرة السوداء عودها … التصقتا …. شرارة برق ساطع غمرت الجرف … ضباب خفيف تواجد بغرابة … عندما انجلى لم يكن هناك في حقل النرجس حرباء … ولا زهرة سوداء !… هزّت النرجسة رأسها باستغراب واستمرت .
-3-
على طاولة في المقهى البحري المطلّ من شاهق ، وعند فوهة الهوة التي تظهر البحر أكثر تحبّباً ، وأكثر وداعة ، وأكثر عمقاً ، كانا يجلسان … أصابعهما تتواصل مع صوت فيروز يأخذهما إلى محيطه السماوي .
– أخضر ثوبك يعبق نفسي بأريج ربيع آخر …
– لبسته لك …
يدك دافئة…
لماذا تتكلم دائما عن الدفء؟…
– لأنّه الحياة … أتتصورين صقيع الموت ؟…
– أحسُّ أني سأموت قتلاً !…
– الموت قتلاً موت تافه لا يليق بك … لن تموتي !…
– كيف؟…
– سأخلّدك …
– كيف ؟…
سأكتبك كلمات مضيئة وستحسدك نساء العصور المقبلة …
– عندما تضمني أكتشف صغر جسدي ويذوب الزمن …
– عندما اضمك أدخلك إليّ…
شعرة من رأسها تقع على غطاء الطاولة .
يمسكها …يتأملها … يصرخ :
إنها معقودة … يا إلهي…
كل شيء فينا غريب !
رواد المقهى على قلّتهم … هناك … يلفّهم الصراخ ، ينظرون باستغراب …ثم يلتهون … صوت فيروز يتوقف …سكون ما بعده كأنه منه …
شرد نظره إلى بحره وعاد إليها … صدم لدمع في عينيها …
– ما بك ؟… الحب لا يبكي …
– بلى …ويضحك …
– ايام كثيرة مرّت / ملونة بأحلام لم أكن أعتقد أنها موجودة / منكّهة بسعادة تغمر كل شيء / حتى وجوه الناس اختلفت / معالم المدينة / أأنت ِ سعيدة ؟…
– نعم …
بريق عينها … صدق .
– أرى الحب في عينيك إطار بؤبؤ وشذى نظرة … اراه دفق حنان … لمسة تعبر الوقت إلى مساحة زمان آخر … أحسّه تخاطراً يرافق تحرك العقارب والأنفاس … لكني لم أسمعه نُطقاً .. أتلاحظين ؟…
– ….
– أتحبينني ؟…
أغمضت وهزت رأسها …
– أنطقيها ، ما أكبر توقي لسماعها …
– …
أنطقيها ، لقد تحولت سمعا كبيرا بحجم جسدي … سأتلقفها بمسامي …
-أحبك …
/ أظهرت موجات صوتها كترداد قادم من عالم بعيد / تغلفه لفائف قدر قاسٍ / طقوس ذبائح في أجران قديمة / ضحايا قرابين خصب / انتحار ملذ / شرارة برق ساطع غمرت المقهى … ضباب خفيف تواجد بغرابة … عندما انجلى ….
لم يكن هناك على الجانب الآخر من طاولته امرأة !…
كانت الحرباء خضراء على الكرسي الأملس الآخر ، تتكور عيناها بدهشة مخيفة … وكذلك الرجل …
وكانت زهرة سوداء فاحمة غريبة تنبت وحيدة … وحيدة … على شفير جرف ناءٍ … تمضغ الوحدة …وألم …
الكاتب الروائي الدكتور الياس العطروني