الوظيفة المرموقة
قرأت فيما قرأت هذا الصباح، في كعب الصفحة الأخيرة من إحدى الصحف:
“موظف “مرموق” يسرق مجوهرات من المتحف البريطاني ويبيعها”.
هذا الخبر يجب أن يتصدر الصحافة، لا أن يكون في أسفلها. فالموظف المرموق والوظيفة المرموقة، إما للسرقة. وإما للبيع. الموظف يسرق. والوظيفة تبيع. أليس ذلك هو عمل الموظفين “المرموقين”. أليس ذلك هو من قواعد الوظيفة العامة “المرموقة”.
أمس، طالعتنا الصحافة أيضا، بهروب سجين، بعد يوم أو يومين من إلقاء القبض عليه. سجين مرموق. هربه موظف مرموق. متهم ببيع “الوظيفة المرموقة”…
ما أكثر هؤلاء الموظفين المرموقين. ما أكثر هذة الوظائف المرموقة. تدخل إلى بعض الجامعات الخاصة، فتجد موظفا مرموقا، يتصدر وظيفة مرموقة. يبيع الشهادات: عنده إجازة للبيع. وعنده دبلوم للبيع. وعنده دكتوراه للبيع. تدخل إلى بعض المدارس الرسمية والخاصة، فتجد تزوير الإفادات المدرسية، قائمة على قدم وساق. لها موظف معتمد مرموق. يمارس وظيفة مرموقة.
تذهب إلى بعض البلديات، فتجد رئيسا مرموقا، يبيع رخص البناء لمن يدفع أكثر. يبيع حجارة البيوت التي غاب عنها أهلها. يبيع قطعة من جبل لأهله. أو قطعة من واد. أو من نهر. يعرض أملاك الدولة العامة للبيع قطعة قطعة. يعرض بيع الأشجار المعمرة. يؤجر آليات البلدية. يضعها في خدمة زبائنه الخاصة. يؤجر الأرصفة. يؤجر الأكشاك والعربات. ويقبض من زبائنه أجرة أتعابه سلفا.
موظف مرموق في دائرة التحصيل. رئيس جباة المال. يتصرف بأموال جباها. يهرب بها إلى الخارج. يهرب بالملايين، دون سؤال. دون مراقبة. أمين صندوق، غدر بالأمانة. صار يضع الأموال العامة في حساباته. ويقدم الكشوف والإيصالات المزورة. يتلاعب بالفواتير. يتلاعب بالميزان وبالأوزان. يتلاعب بعداد البنزين والمحروقات. ثم يهرب بالملايين إلى البرازيل، بعد أن يفتضح أمره.
مدير عام “مرموق” يغادر في أسفار خاصة لمدة طويلة. يتابع أهله في الخارج. يوكل موظفا مرموقا في غيابه، ليوقع عنه ما غاب عن توقيعه. ليوقع أيام الحضور له ولزوجه. ولا يتنازل حتى عن بدل النقل، الذي صار لا يغني ولا يثمن من جوع.
نائب مرموق، يحضر إلى دوائر القضاء يوميا، يهدد القضاة. يحضر إلى العقارية. يسرع التوقيعات. يحضر إلى دوائر البلدية، يخفي محاضر الضبط. يمزقها، بالتعاون والتضامن مع موظف مرموق. مع رئيس مرموق. مع قاض مرموق في العدلية .
وزير مرموق، يفتح في الوزارة على حسابه. يوقع هنا. ويمتنع عن التوقيع هناك. يحرك المعاملات، مثل الروبوت. يتحرك صعودا ونزولا بناء للإشارة. يصرح أمام جمهوره، أن يده طويلة في الدولة. يده طويلة في المخافر والسجون. “يفك المشنوق عن حبل المشنقة “. يدبر الإتهام الجاهز. ويمحو ذنوب المتهمين ويبرئهم.
قضاة مرموقون، تتكدس الدعاوى أمامهم. فلا تتحرك ألا بأثمانها. يصدرون الأحكام على الرغبة. يلتزمون أسيادهم الذين أوصلوهم إلى صدارة المحاكم. وسلموهم الوظيفة المرموقة للتجارة. فكل قضية لها سعرها. وكل معاملة فيها نظر. والحسابات عادة ما تكون جارية.
هكذا تتم عمليات السرقة، في الإدارات والوزارات. هكذا تسرق المكتبات والمستودعات. هكذا تسرق الهبات. هكذا يصدر الوزير الحظي، ممتلكات الوزارة، من آلات ومعدات. ومن كتب ومن لوحات. يسجل العقارات. ويبيع سكك الحديد ورمول الشاطئ. يبيع الشاطئ نفسه لشطار الدولة الذين لهم باع طولى في أعمال نهب الدولة، أبا عن جد. يقدم تراخيص في أعمال هدم الأبنية التراثية. ويقوم بنقل العقارات، من أسماء لأسماء بلا تكاليف. ثم يهرب الموظف المرموق إلى الخارج، بدعوى الإستشفاء من داء خبيث ألم به على حين غرة. غير داء الإبتزاز والسرقة.
في بلادنا، لا تسلم الملفات الساخنة إلا إلى موظف مرموق. تماما كما لا تسلم الوظيفة، إلا إلى موظف مرموق. ولهذا نرى الوظيفة المرموقة تنتظر كثيرا، مثل العروس، حتى يأتي نصيبها. فتزف للعريس المرموق، الذي يمضي ليله ونهاره في سرقة متاعها. في سرقة جهازها. في سرقة أساورها وخواتمها وأثوابها.
خسرنا بلادنا كلها، طيلة الألفية السابقة، بين وظيفة مرموقة. وظيفة يقال عنها “دسمة”. وبين موظف مرموق، تكفل بالسرقات كلها. تسلموا البنك المركزي. تسلموا المالية العامة. تسلموا الأمن العام. تسلموا المواقع الأمنية كلها. تسلموا الأمن الداخلي. تسلموا المرفأ وتسلموا المطار. و تسلموا الليرة. تسلموا الأرض. تسلموا الشعب. تسلموا الحدود والجبال والسهول والأنهار والبحيرات والسدود: خربت كلها. جعلها الموظف المرموق، يا للعار، طيلة مائة عام، قاعا صفصفا.
ها نحن اليوم ندفع الثمن من عيشنا. ندفع الثمن من كرامتنا. ها نحن اليوم نقطع العمر، مثل حياة العجزة. هاجر أولادنا إلى ديار الإغتراب، بحثا عن وظيفة. بحثا عن لقمة العيش الآمنة. بحثا عن السكن الآمن. وعن المستشفى وعن الجامعة. وحتى عن المدرسة.
الموظف المرموق، كان مثل الناطور الفاسد، ظل لوقت طويل، يسرق الغسيل عن السطوح. يسرق الأواني. يسرق مستودع البناية. يسرق حتى أمتعة وحوائج الشقق وسكان البناية.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين