كتب يوسف رقة :
.. قبل يوم من تلبية دعوة المخرج الصديق بحيي جابر لحضور عمله المسرحي الجديد ” شو منلبس ” للممثلة أنجو ريحان ، قرأت صدفة مقالة عن العمل ، أخذت العرض إلى فكرة واحدة واختصرت شمولية النص بحيث قلت لنفسي ” شو هالعلقة يللي بدك تورطنا فيها يا يحيي ؟ “.
لكنني قررت تلبية الدعوة وحضرت العرض ، وخرجت بحده تعالى من مسرح المدينة في الحمراء مرتاحا ومقدرا للشغل الذي قام به كاتب النص ، المخرج يحيي جابر ، ومقدرا أكثر الممثلة أنجو ريحان في عرضها ال ” مونودرام ” وهو من أصعب الأعمال المسرحية التي تتطلب حضورا تمثيليا عاليا ، فقدمت أنجو لنا خاماتها الصوتية المتنوعة في تشكيل الشخصيات ، وفي قرتها على الدخول والانتقال من شخصية إلى أخرى برموز بسيطة نجح المخرج كثيرا في إيقاعها وإيصالها .
حكاية العمل ، متشعبة ومتداخلة في طروحات نبشها الكاتب من واقع في مرحلة معينة من تاريخ الصراع مع الاحتلال ، مرحلة بدأت بعد العام 83 , انطلاقا من تجربة مناضل ” شيوعي ” وعلاقته من العائلة والبيئة المحيطة به ..
مرت ساعة من العرض ، وأنا انتظر ما قرأته ، لم أجد بأنّ فكرة النص تمحورت بشكل أساسي ورئيسي حول قصة ” البوريفاج ” بل عرضت قصة أكبر من ذلك بكثير ، قصة كزدورة قوات الاحتلال في القرى الجنوبية وأسر شبابها ومناضليها ، قصة مواجهة النساء للاحتلال وإن ” بجرن الكبة ” حيث يصل الصوت ، قصة حقوق المرأة وعلاقتها مع زوجها ، ورمزية أن تكون تلك المرأة ( المواطن غير المؤدلج ) أن لا تكون مرافقة بل رفيقة ، قصة فتاة في بيئة محافظة تريد الخروج من التقاليد السائدة ، تطلب أن تصير راهبة ، وتطلب أن ترتدي الحجاب ، ثم التحول الداخلي الذي شاهدته من خلال انتقالها من البحر إلى النهر …
لن نلخص النص بشكل كامل ، ولكن نلفت إلى أنه يحكي سيرة جنوبي” شيوعي ” وما عاناه في بيئته خلال مرحلة معينة ، نقول مرحلة ، لأننا لو نقلنا الدور إلى سيرة جنوبي ” غير شيوعي ” لكان النص قد اختلف ، وسمعنا معاناة هذا المواطن من ” ف.لاند ” والقصف العشوائي الذي كان يحصل بشكل غير منظم وغير مدروس ، و تعرض القرى والمدنيين إلى القتل والتهجير بصورة مجانية ، لكنا شاهدنا النساء ومقاومتهن بالزيت المغلي ، لكنا أحسسنا بقيمة البيئة الخاضنة في التضحية بأرواحهم وممتلكاتهم من أجل الأرض ورفض الظلم والعدوان .
لا نريد أن نناقش هذا الموضوع كثيرا ، وندخل في التحليل السياسي وفكرة التوازن الاستراتيجي المطلوب، إذا لنبقى في الاطار الزمني للنص حيث فعلا لم يكن مفهوما ما الذي حصل في تلك المرحلة ولماذا طغت فكرة الانكفاء بعد اجتياح العام 82 ، ولماذا لم حصل الاختلال في البيئة الحاضنة ولم يكن حاضرا القالب الذي يجمع المقاومين في إطار تنظيمي واحد وغرفة عمليات واحدة تدير الصراع بشكل مقبول .
تكلما كثيرا عن النص والنقاش والتحليل الذي لا ينتهي حول فكرته التي نعتبرها تعبّر عن تجربة الكاتب ورأيه وزاويته ، لكننا نشهد بأنّخ نص متماسك واحترافي ..وأنتقل للحديث عن التجربة المسرحية التي يخوضها يحيي جابر من خلال سلسلة من العروض بدأها منذ أكثر من عشر سنوات ، فكرة إعداد الممثل ، كيف تمكنت يا يحيي من خلق الممثل وإظهاره بهذه الحرفية التي شاهدناها عند أنجو ريحان وعند ممثليك في جميع مسرحياتك ، أي جلُدٍ لديك ؟ وكيف يتحمل الممثل في اعمالك كل هذه الأعباء ، شيء غير عادي ، وقد وصفت شغلك في مقالة سابقة بأنك تٌشكّل ” مختبرا مسرحيا ” وازدادت قناعتي بذلك بعد مشاهدتي ” شو منلبس ” مع أنجو ريحان.
في ” شو منلبس ” تلعب انجو ريحان شخصيات عديدة ( الفتاة ، الشاب ابراهيم ، والدها ، أمها ، جيرانها ، جنود الاحنلال ) وكل هذه الشخصيات تصل إلى المتفرج وتقنعه بواسطة تبديل صوتها والاستعانة ببعض الاكسسوارات البسيطة ، فالديكور ، الخلفية لكرسي الممثلة عبارة عن ” منشر للغسيل ” يتحول إلى باب للجنّة وأحيانا إلى مكان للاستحمام وأحيانا إلى ملجأ تحت الأرض ، كل ذلك وسط مؤثرات صوتية بسيطة كمقطع أغنية أو صوت انفجار ، أما لعبة الإضاءة البسيطة كمسرحك ، فكانت بمحلها ولم يطلب منها أية إضافات تزيد من تأثيرات المشهد .
يحيي جابر ، لا يسحر المتفرج ، لا يريد أن يسحره ، يريده أن يرى المشهد ويكون حكما ، وان كنا شاهدنا الدمعة السحرية في عيون بعض المتفرجين خلال العرض إلا أنها سرعان ما تتحول إلى ضحكة تفصلنا عن الماضي .
فكيف يصنع يحيي جابر المتعة والتأثير في العرض المسرحي دون أن يٌسحر المتفرج ، كيف تمكنت الممثلة أنجو ريحان من كسر أشد اللحظات الدرامية بحركة بسيطة منها أو ابتسامة أو كلمة ؟
صراع كبير ، فجّره المخرج والكاتب يحيي جابر في رؤوس المشاهدين ، فأثار الجدل و استمر لبعد العرض ، وسيستمر نقاش العرض ، لانه عمل لا يمكن أن تنساه بعد مغادرة قاعة المسرح ..
نقاش مفتوح ، ترى ، أليس هذا دور المسرح ؟
يحي جابر و أنجو ريحان