عبد الغني طليس كتابا:
سوسيولوجيا السيرة الذاتية
هي أكثر من سيرة روائية، يقول الناشر شادي منصور، عن كتاب زين العابرين.
… نحن أمام فعل تأريخي معمق للزمن الفني والثقافي والإعلامي…عمل ضخم بمعناه ومبناه ودلالاته… حيث كان شاهدا محايدا… بأدوات لا تقل تطلبا وإبداعا… عرض فانتازي خلاق وحمال أوجه…
الأستاذ عبد الغني طليس، العلامة الفارقة في كل منبر، يترك بصمته الدامغة حيث يكون.
يحرر المؤلف عبد الغني طليس، سوسيولوجيا سيرته الذاتية، خلال خمسين عاما. يستعيدها من الذاكرة، كما وقعت له. أو كما يحسب أنها وقعت له. و”زين… العابرين، زمكان- بيروت، 2024″، إنما هو بطل السيرة الذاتية الذي بقي محافظا على حيويته ونشاطاته المختلفة، التي يتمازج فيها السرد السوسيولوجي، بقراءة الأوضاع المختلفة التي عبر بها، وعبرت به. فتركت في قلبه، ما يشبه الورق الأخضر، بعد نصف قرن، فشعر أنها تؤلف كتابا.
“خمسون عاما وراءك، ولا أوراق تذكر بها. ثم فجأة تقرر أن تستعيدها وتضعها أمامك… لكن الثابت، هو أن خمسين عاما في الصحافة الفنية والثقافية، والفنانون في الأغلب الأعم خوتان، تعني ما تعني. وما دام زين لم يرحل عنهم… فالمؤسف أنه أصبح منهم… أو كاد!.”
إنها حكاية الفنان والصحفي والأديب والشاعر. مجموعة إختصاصات، توحدت في شخصه، فجعلت منه بطلا لسيرته المميزة.
” كان زين طفلا في السادسة من عمره عندما إجتمع مع إخوته حول أبيه وأمه… زين الموهوب في التأخر المدرسي… كان يدعوه إلى مزيد من الدرس. وهو متأكد من أن ذلك مستحيل… “هلقد بيستوعب”.
سيرة ذاتية، بكل تفاصيلها العذبة والمملة أحيانا. تتحدث عن ولادة البطل زين في بعلبك، مسقط رأسه، ثم الإنتقال مع أسرته إلى بيروت، وإقامته في برج البراجنة. والإنتقال منها بين الحين والآخر إلى بلدة بريتال، موطن الأهل والعشيرة.
نراه يتحدث بشوق، عن ذكريات الطفولة والفتوة والشباب. وكيف كان يتهرب من واجباته المدرسية. يتحدث أيضا بشغف عظيم، عن أيام المراهقة التي عبرت به وعبر بها. يذكر بعض نزقها. ويذكر نفسه بها. بأسلوب إنسيابي، على حساب الرصانة الثقافية حينا، وعلى حساب القواعد الأكاديمية حينا آخر. وهذا النوع من الأسلبة، من الأسلوبية، إنما تمكن من نفسه ومن قلمه، ليقول إنه على الطبيعانية. إنه على السجية. مما يمنحه كثيرا من الصدقية في نفوس القراء، الذين ملوا قراءة الكتابات المصنوعة و المرتبة، في علب السير الذاتية.
يتوقف المؤلف عند مرحلة “إستديو الفن-1974″، حيث كانت إنطلاقته الأولى. والتي يعتبرها مفصلية في حياته. فمن هناك كان عبور زين العابرين، أولا على أقرانه. ثم كانت محاولاته المجتهدة، للتمسك بهذة المرتبة وأخذها بقوة، طوال سني حياته الخمسين، إلى هذا الحين.
“في العام1974، عندما بدأ برنامج “ستديو الفن” كان زين يعيش مخاضا إستباقيا مع نفسه… زين الشاب البريتالي، هل عليه أن يحل هذة المعضلة لدخول البرنامج؟”.
يتحدث زين عن نفسه، كمن يتحدث عن رتبة وعن درجة. وعن جوائز وعن أوسمة. صار زين أولا، حيثما حل بين الأهل وبين الصفوف. وفي الحفلات. وعلى المنابر. وفي الصحف وفي السوق. وفي سوق العشيرة. يتقدم كبطل، له زهو البطل وكبرياؤه، بين أبناء جيله. على الرغم من واقعيته، التي كانت تعيده إلى مندرجات الحياة، بصورة رجل بسيط، نزع من نفسه عقد التاريخ والجغرافيا. وعقد السوسيولوجيا التي كانت قد أورثته كل عقدها.
” ذات يوم، كان جورج إبراهيم الخوري، وكانت “الشبكة” في مسرى نجاحها الباهر، عندما قال الخوري لزين: “لازم تعرف إنك عايش في وسط “شراميط” نساء ورجالا.”
يحاول زين منذ برهة إستديو الفن ومدالية الشعر الغنائي، أن يجعل نفسه بين المشاهير. يظنهم وحده مشاهير. وربما ما كانوا كذلك. غير أن تسجيلات حياته اليومية، تمنحه شهرة أعظم. وتعمق في نفسه حظا مختلفا من الشهرة: إن في خدمته العسكرية وإن في نجاته من القتل، ليلة 15 نيسان 1975. وإن في تخلصه، من عقدة الخجل مع النساء. وإن في مواجهة والده العسكري، ببزته كوطن كامل الأوصاف.
” الليلة التي دونت على أنه بداية الحرب الأهلية اللبنانية، كانت الثالث عشر من نيسان1975، هي نفسها الليلة التي كان يمكن ان تكون ليلة مقتل زين، وهو يفتش ليلا عن صبية رائعة الجمال”.
يروي لنا المؤلف، كيف خوض زين في تجاريب عديدة، صنعت منه كرونولوجيا أسطورية، لشخصية عابرة في الأزمنة الصعبة. فيغوص في ذاكرته، ويحفر على محاولاته الأولى مع القرآن والنبي. ومع الجامعة ودروسها. ومع مجلة الشبكة. وكذلك مع الحبيبة. ويتوقف مليا، عند عرضه للمقابلات الفنية في الصحف وعلى الشاشة الصغيرة.
يتذكر الراوي، روايته بكل تفاصيلها، مع شخوص إستثنائيين من أهل الفن، وقف أمامهم، يسائلهم. يحادثهم. كان قد حادثهم كمسؤول فني. أكثر منه ناقدا فنيا: مارسيل خليفة وصابر الرباعي وعبد الحليم كركلا وزياد الرحباني والفنانة صباح/ شحرورة الوادي.
يتحدث عن العروض التي وقعت له ووقع عليها: مثل رئاسة تحرير مجلة سحر. وكذلك مسرح الأطفال. يتوقف عند ذكرياته الطويلة والشجية، مع سيمون أسمر وسليم سحاب وراغب علامة ورفيق علي أحمد وأليسا ونجوى كرم وهيفا وهبي.
” إمرأة أسمها هيفا وهبي تعرضت للقتل الفعلي على مدى سنوات عبر آلاف النكات الجنسية المقيتة عنها، ومئات الشائعات المغرضة… ألا تستحق هذة المرأة أن تعيش عمرا أطول من أعمار كل الذين ينتظرون وقوعها.؟”
تذكره للفنانين شجي للغاية، يستعذبه المرء لنفسه ولغيره. فكيف إذا أطلقه عبد الغني طليس على سجيته المعهودة.
هناك أغنيات كثيرة على المسارح . هناك مسرحيات كثيرة، مغناة. هناك عبد الغني طليس رجل العذوبة. إن تحدث أدهش. وإن صمت أرهب.
يبوح عبد الغني طليس بلواعجه كلها، على لسان زين العابرين. لا يخشى النقاد ولا يخشى القراء. ولا يخشى من يتحدث عنهن، من ثورة نساء. ولا ثورة رجال… تراه يصدمنا بالأخبار التي تصطك منها الأسماع. فنتجاوزها لعذوبتها ولا نجعلها من عقد القراء في نفوسنا. إذ نسلم معه، أنه يستعرض سيرته الذاتية سوسيولوجيا. وبذلك نتجاوز جميع العقد الصادمة لنا.
“عمل زين في عشرات البرامج التلفزيونية، وفي محطات متفرقة لبنانية وعربية. لكن تلفزيون لبنان، هو المحطة التي أعطته مساحة كافية… “مسا النور”.”
هو مطلوب حيا وميتا لهيفا وهبي. وهو في جلسة عمل مع منصور الرحباني، وهو مع وديع الصافي، ووليد غلمية. ومع السيد فضل الله. ومادونا وغسان الرحباني.
حكايا وأخبار عذبة، لا تعنينا في صدقها وفي كذبها، وإنما ما يعنيننا منها حرارة التأليف والتوليف. حرارة المحدث والحديث.
إستمعوا لحكايته مع جورج خباز، وكيف خرج من برنامج زين مقهورا. بل إستمعوا لحكايته مع غسان الرحباني. إقرأوا معي: كيف يقرأ الراوي حكاية الأغنية التي تباع مرتين. وكيف كانت جدته تسحقه بإستمرار. إقرأوا دعوة أكرم العجي وناهد طلاس. وحرب ميشال عون ضد طليس.
” العرس الذي كان بعد أربعة أشهر… ما برح يعاني من حرب ميشال عون التي إمتدت، وقذائفه كانت تطاول بريتال وحزين في البقاع… كان زين يرغب في دعوة مغنين إلى العرس، لكن القذائف في14 أيار 1989، منعته من الإتصال بأحد.”
يعرض المؤلف لسيرته الذاتية، كشاعر أكثر منه راويا. يعرض لزمن زواجه، بتفاصيل عذبة ومحببة. يعرض لحكاياته مع النساء ولصراعه الدائم معهن، كرجل جاذب زير نساء. ثم نراه في خواتيم الكتاب، يعود ليدون سوسيولجيا حياته الشخصية وحياته السياسية . سوسيولجيا العشرة والأصدقاء والأدباء والكتاب. موظفا خمسين عاما من الحياة على المنابر، لمقارعة صديق لايعرف الطريق.
” إذا كان القدر الأسود قد حكم على لبنان، أن ينتهي فيه المسرح الغنائي الإستعراضي، برحيل منصور الرحباني، فمعنى ذلك أننا سنعيش فوق الزمن المر، زمنا أمر وأخطر، وسنفقد من الهوية الفنية اللبنانية، أحد أبرز الأشكال الفنية… المسرح الغنائي.”
هل هناك أصعب من مهنة المتاعب.؟ تكبدها الراوي، كإعلامي. كرجل صحافة بإمتياز. حدثنا بحديث دقيق ووازن، عن العلاقات التي تجمعه مع الأصدقاء. تراه قد وقف به الزمن، عند ثلاث محطات لا ينساها مهما عاش. فقد بصمت قلبه وروحه وعينيه: مقهى الروضة، وملتقى خيرات الزين وموت الشاعر حسن عبدالله. فهناك الشجى الذي يبعث الشجى. وهناك الحكايات العذبة. وهناك البوح بأسرار النفس الصافية والمعذبة…
في خواتيم الكتاب، يتحدث الكاتب، كأستاذ جامعي في الصراع مع إسرائيل. وفي التعاون مع الرئيس بري، للنهوض بتلفزيون لبنان. ثم يستأني سامعيه، ليسجل نقطة في النظام: محمد الموحى إليه، لا المؤلف. وكذلك فلسفة ما بعد رؤية الله. دون أن ينسى الحديث مجددا عن عبد الغني طليس طاويا نفسه على الرمل بشكل جنين! مترحما على زمن رحم خرج منه: رحم الفن الذي مكنه من كل هذة الشهرة العظيمة التي أصابها.
” أخذ زين كتاب حياته بيديه معا ومشى نحو البحر…. وعلى الشاطئ قال لا أريد أن أغرق… هذا كتاب حياتي… أخ رأسي…
يمسك زين رأسه بيديه، ويصرخ: رأسي… رأسي… رأسي… ويلقي بجسده على الرمل في وضعية جنين في بطن أمه.”
الأستاذ عبد الغني طليس، أبدع نفسه بنفسه في هذا الكتاب: “زين العابرين”. حرر نفسه من عقد السوسيولوجيا جميعا، حين روى سيرته الشخصية، على لسان زين العابرين، سوسيولوجيا…
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصي الحسين