فادي ناصر الدين:
تذوق مثل هوميروس
“ألو… شو…
ما بدك تجي؟
ناطر أنا…
جيبي معك
دخان
مندخن سوا..
جيبي ورق
منيح الورق
ع قد
ما عنا حبر
جيبي ورق.”
لا أعرف لماذا خطر ببالي مثل هذا العنوان، وأنا أقرأ لأول مرة، ديوان “جلنار” لشاعر المحكية ميشال طراد قديما، وديواني: “أبيض حكي الرحمن” و”توت شامي”، لشاعر المحكية اليوم، فادي ناصر الدين. أيقظي باكرا هذا ديوان “جلنار”، على نوع من الشعر، من غير شعر، كما كنت أسمع بالشعر. كما كنت أعرف الشعر.
كنت بعد، في دار المعلمين. وكنا جيلي وأنا، مأخوذين ومشبعين، بل متخمين، بشعراء المعلقات. وشعراء العصور التي توالت بعد العصر الجاهلي: عمر بن أبي ربيعة وجرير والفرذدق وأبي تمام وأبي نواس والبحتري والمتنبي، وأبي العلاء، والشيخ إبراهيم اليازجي وإيليا أبي ماضي وجبران. كانت البرامج التربوية في المراحل الثانوية، تضخ فينا دم الشعر الصافي الرقراق. ثم أكملنا دورة الشعر، بمعاشرة ومعاقرة قصائد نزار قباني في مكتبه في اللعازارية. ومحمود درويش في مكتبه بشارع السادات. لم يكن الشعر في كل تلك المراحل العمرية التي قطعناها، إلا ذاك عندنا.
ويوم سمعت قصيدة جلنار، من فم صديق قديم، سعدالله سابا، من رحبة. من صحبة الجامعة. على رصيف كلية التربية في السبعينيات، كنت قد تذوقت شعرا من غير شعر. كنت تذوقت حلاوة من غير نوع السكر المعتاد، في فنجان القهوة، وفي كاسة الشاي، وفوق الرغيف الساخن مع الزباد. لا زلت أحفظ، منذ ذلك اليوم:
” يا صبح روج/ طولت ليلك/ خليت قلبي نار/ بلكي بتجي أخت تغنيلك/ بلكي بتجي جلنار.”
منذ ذلك اليوم المبكر، صحبني ميشال طراد، إلى دواوينه. دخلت إلى دنيا الشعر الجديد. توسعت معرفتي. وتوسعت ذائقتي الشعرية. وكدت لشدة تأثري بشعراء المحكية، أن أجرب هذا النوع من الشعر الجديد في مطلع حياتي. كنت أقلد شعراء المحكية. وأنا أتغزل ببعض الصبايا. إتخذته جملا للوصول إلى مضاربهن في الليالي القمرات. وجدت فيه ليونة وعذوبة، يمكن أن تقع بسهولة لهن. يمكن أن تقع بسهولة في قلوبهن.
لم أنقطع عن الإهتمام بشعراء المحكية. كنت دائم الإصغاء إليهم، أينما إلتقينا. غير أن الدراسات الجامعية الأكاديمية، أغرقتني بهمومها. فكانت إنعطافتي بعد الغزو الإسرائيلي في حزيران1982. قدمت قصيدتي : “عرش النار” على مسرح الرابطة الثقافية بطرابلس، وغادرت ساح الشعر. إنسحبت طواعية من ساحته. إستجبت لسؤال عنترة: “هل غادر الشعراء من متردم”. نعم غادرت يا عنترة. لأني لم أجد في الشعر ما يحمي المدينة من شظايا قنبلة. أذكر أني قلت ذلك، لرشيد درباس، الذي كان يمسك بي، وإنسحبت من مهرجان الشعر الأول بطرابلس في العام 1982. إحتجاجا، بل إستنكارا للغزو الإسرائيلي. إنتحرت على طريقتي، لا على طريقة الشاعر خليل حاوي. وسجنت الشعر في صدري، طوال حياتي.
مهدت ذلك لأقول:
1- إني وجدت في شعر المحكية، عند فادي ناصرالدين، ما لم أجده عند غيره من شعراء المحكية. إكتشفت في ديوانه: “أبيض حكي الرحمن”، وديوانه: “توت شامي”، ما لم أقع عليه عند غيره من شعراء المحكية.
مبارح…/ كان الوقت/ مضيعنا/ وكان/ في حدا/ مارق ع إيدك/
هيدا العمر/ عم يفتح الشباك/ تيفل الضجر/ يا عين/ ما أحلى القمر/ متل القمر…”
الشاعر والمخرج فادي ناصر الدين
2- فادي ناصر الدين، في هذين الديوانين الصغيرين النحيلين: يتسوق الشعر، مثل ملياردير. يتذوق مثل هوميروس. تماما، كما يتذوق الشعر، شاعر معاصر عظيم. يصرف من كيس الشعر، مئات القصائد. ومئات المواقف. ومئات الصور. ومئات المعاني. ومئات الجمل. ثم يضغط على المكبس فيصوغ لك الحلى. ويقدم لك الجوهر.
أليس القدماء كانوا يتحدثون عن جوهر الشعر، في قصيدة تتجاوز أبياتها المئات. أليس النقاد القدماء هم الذين إخترعوا: البيت الفرد. والبيت السائر. وبيت القصيد. كان يحفرون ولا زالوا، على اللقى الشعرية، في غمار الشعر المكدس في الدواوين والقراطيس.
“شايف ولد/ ملهوف/ بدو بنت… مينك إنت؟
/ علي.. ووطي / هبوب الحكي/ ع مهل/ خافوا الأهل.”
3- فادي ناصر الدين، أعفى نفسه من المطولات. أعفى نفسه من الحشو. أعفى نفسه من العمائر المعلقة. من الجنائن المعلقة. فجرها كلها في نفسه، وأمسك بخيوط الدهشة من الشعر، وراح يغزلها بمغزله، حتى تليق بعروس الشعر. لأنه يريد حقا، عروس الشعر، لا العرس. يريد إختطافها والبناء بها، في نزوة الشعرية المحضة.
4- وصلت شهرة وشعبية فادي ناصر الدين، في ديوانيه الصغيرين، حتى كاد أن يهدد سوق الشعراء بدواوينهم العظيمة. بقصائدهم الطموحة. بشعرهم الطموح إلى الجوائز في سوق عكاظ. بمنافستهم، على الرغم من حملاتهم الإعلانية. على الرغم من متجرهم الواسع الأبواب، الذي يضرب لهم في الأسواق. وفي حصيد الشعر و حصيد الجوائز.
” عيونك/ لقح الضهر../ شمسو/ ع خدي وفل…/ عيونك/ حكي… ع الحل…”
5- يستهدف فادي ناصر الدين، التيمات الشعرية المخفضة، يرميها بقوسه مثل الكسعي، ولا يدري، بعدها ما أصاب من عرائس الشعر، وما رمى. فيجعل الباحثين على الشعر، يتفاجؤون به. على تجربة يقدمها لهم، أشبه بالألعاب وبصور الترفيه، بسهامه المحلية الصنع، وبسهامه الجبلية. موفرا لهم المعاني والصور، دون أن يكونوا مدركين، إلى حاجتهم منها، قبل سماعه. قبل قراءة ديوانه. فهذا النموذج من الشعر، الذي أتى فادي ناصر الدين، بأغراضه، يناقض المألوفات من المؤلفات عندهم. خصوصا لجهة الأسلوب الآخر، الذي لم يعرفوا به.
الإصدارات الشعرية للشاعر والمخرج فادي ناصر الدين
6- في أفضل الأحوال، لم يجعل فادي ناصر الدين، من نفسه، شاعرا منافسا لهم. ولم يتضح لنا أنه يشكل تهديدا حقيقيا، لشعراء المحكية، أو لشعراء الفصحى. وما كان ذلك قصده. فأسبابه تختلف عن أسبابهم. لأنه يريد الشعر المكثف، لا الشعر المطروح. وهو لا يسعى إلى المنافسة، ولا يريد أغلبية في الحصة السوقية. إلا أن ما يوقن به، هو الوصول غير المقيد، إلى النفوس العطشى للشعر المختلف.
على مهلك/ ع… قل/ من مهلك/
دوز العشق/ لا ترفعي/ كمامو/
خلي اللعب/ للعتم/ لبعد ميناموا/
ودوقي/ غرام السكت/ ما أصعب/ وحامو”.
7- فادي ناصر الدين
تذوق الشعر متخما به مثل ميلياردير. مثل هوميروس. مثل شعراء عظام، عبروا بر الشعر وبحره. رأيت بيارقه مرفوعة في ديوانيه هذين.
” شفتك مرا/ من بعيد/ ندهتلك تعي/ بساط لعندي/ مليح/ شدي العشق/ ع الريح/ بكيِّف إذا بتقطعي..”
8- يريد فادي ناصر الدين، من ديوانيه، بداية للممارسة الشعرية، لا التهديد غير الواضح عنده، لطرق الشعر المعقدة والجاهزة، أكرر، كمعلبات في واجهات الباعة على الرصيف. أو على الرفوف. والتي تبيع الشعر للمراهقين. يريد حقا النمو الشعري، أكثر مما يريد الحصيد. لأن فادي ناصر الدين هو شاعر النمو. وحسبه من ذلك غرضا أول من أغراض الشعر، الذي لم ينتبه له النقاد، حين يتحدثون عن أغراض القصيد على بيادر الحصيد.
” تنبل…/ أصل الولد/ تنبل/
تنبل حقيقي/ مأصَّل ولماح/
بشرقط كسل/ مترنح ومرتاح/
مالو خلق/ يحكي/
بيتعب/ إذا حمل الحكي/
مليان/ مدري/ مين مخبرو/
إنو الحكي/ بطوطح السكران”
9- إن كثيرا مما نقرأه أو نسمعه من الشعر، إنما يعكس قدرا من واقعيته، ويعبر بصورة أو بأخرى عن طموحات الشاعر المتصدر، لا الشاعر المتخفي. وأما إهتمام الشاعر فادي ناصر الدين، فهو مختلف تماما. يتجاوز التصدر للشعر، للإختفاء عنه،حتى تكون ساعة البوح به.
فادي ناصر الدين شاعر التخفي والبوح. وقد لا تكون له أعلى نسبة في تحرير الدواوين، بل نراه يكتفي بأعذب لمظة شعرية، تحت اللسان. إنه يؤسس، لمدرسة، إستبدلت عمودية الشعر، بعمودية الذوق الشعري. بعامودية التذوق الشعري. وهذه من الوسائط التي تجترح فرصا جديدة، لشتى طبقات محبي الشعر وعشاقه، أمثالي.
“ع على مهلك/ ع.. قل/ من مهلك/ لا… تعملي/ ضجي/ هلق بفيق/ الصبح/ وبيختفي وجي.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين