تدفق الإبداع
كثيرون من لا يعرفون، كيف يأتي الإبداع. كيف يتدفق. وكيف يجف و يمتنع. تلك الموهبة الحساسة جدا، هي مثل خيط من الشمس، في صبيحة يوم مشغول بالغيوم، مثل شالات عروس، تناثرت على كتفيها، حين أرادت الخروج من دارتها، إلى الجلوة. إلى مبرزها. إلى حيث تلاقي الفضاء والسماء، والزهرة المتكئة على جدار قديم. على تلة . على رابية.
ليست الكوة التي تطل منها، إلا متنفسا لها. تملؤها نورا، وتسترسل في القص. تملأ شالاتها حكايات عن النور والظلمة. عن سرب من الطيور المهاجرة عبرت بها. عن لوحة من رسوم الأسماك الصغيرة المتحركة، مسحورة تحت صفحة البحر. تحت صفحة الماء. عن حبة جوز، تملأ العين والقلب. تروي حكايا الحب، في السهرة. مع الكمون واليانسون. والشاي الأحمر، كسمرة فتاة جارية إلى بيتها. تتقمص الجدة جدتها. تنسج من خيالها، ما يروى لها. عن شباب العز والرقص والدبكة والمحدلة. وقوس البوابة الشاهدة.
الإبداع نسيج وحده، عندما يأتي التشكيل مسترسلا بريشة الضوء واللون والبحور البيض. يتدفق في عز إسوداد الشتاء والليلة الماطرة. يهرب العصفور إلى الحجر. يختبئ تحته. يرتجف من البرد. يحرك ريشه ذات ميمنة. ذات ميسرة. يقول كل شيء بغمضة عين لا تتعب من الزقزقة. وأما التلة البعيدة، فهي تنتظر قدومه السعد، عندما يصدح الفجر بموسيقى صف من الحجارة المتهورة.
كل شيء في عالم الإبداع يؤنس الفنان. يؤنس الريشة. يؤنس الرسام. يجعله يسبح في بحر من التيه، وهو يهدي الناس إلى الطريق البعيدة، المعبدة بالقلوب الناظرة.
كنت أفتش عن المعنى الملون. عن المعاني الملونة. تنفلش على الأبيض، على الأصفر. على الأخضر. تقول ما لا يستطيع أن يقوله القلم، حين يسكب دمه في المحبرة. حين ينسل بين الأصابع. يتوتر قليلا، ثم ينطلق كما السهم من القوس، إلى الدائرة.
“الأنثى الأفعى”، في لوحات الفنانة التشكيلية ورسامة الكاريكاتور، دلال العزي القيسي. دار النهضة- بيروت2022″، يقول كل شيء. يختصر الحكايات والعبر المرتزقة. وهي تتابع ال ما لا يقال عن المواقف. عن المنابر. عن الرجال. عن السيدات، وبنات العقول في الصف الأول.
لا يتعب الفنان من دمعه. لا يتعب الفنان من دمعه. يراه يروى اللحظة الهاربة من براعم يديه، إلى الشجرة. إلى الثمرة. يراها تلمع. تخضل. تنضج، ثم ها هي تسقط على الورقة.
ما أحلى النوم على الورق الأبيض. على الحلم الأبيض. على مخدة الليلة الماضية. جاء ملاك الكرى نهز الفنان بمهمازه. وخز ضميره. أيقظه على العهر السياسي. على الكذب الذي يمجد الأحلام الكاذبة. لا ترى الفنانة التشكيلية دلال العزي القيسي، تمل من نسج الصور الخيالية لرجال الصف الأول. لنساء متقدمات على النساء. يقلن بالعينين، ما لا تقوله اليدان، في الليلة المختبئة على سر مصون من الذاكرة. كيف يكون اليوم السابق، مقدمة لليوم اللاحق، على صهوة فرس أبيض، وثوب عروس، يتفتح كما صف من الركاميات، تحته أصناف من الزهر والورد والوعد. تحته أردية، تلي الأبدان المتقعرة، كما جوف مرآة، نساها المزين للعروس الغريبة، حتى ترى ما لا يرى.
لا تدع الفنانة التشكيلية ورسامة الكاريكاتور شيئا لذمة التاريخ. تريد أن تسمي الأشياء بأسمائها. ليلة الفاضحة. ليلة الفضيحة. ليلة الإقصاء والعروج، والنزول إلى منعرجات وتكسرات الخطوط. إلى الهاوية. تنتعل من الأقوال، ثم تنتبه لما إرتجلت، فإذا هي لوحة مكتملة.
كم يقول الفنان، حين يرش اللون على الورقة. صغرت مواقف الزعماء. كما تصغر الأفيال حين يهبط بها الليل إلى الأرض. تراها تتثاءب، ثم تعود. تريد الوقوف من جديد. فتخذلها ريشة الرسام، في يد دلال، كما الدلال الذي ينادي على الأشياء. ينسى أن يقول الزيف. يستره عن عيون الزبون المتفحصة.
تجول دلال العزي القيسي، على العالم. قطوفها دانية. تجسم الكلام المهترئ، الذي تمجه الأسماع. لا تريد أن يظل مخبوءا. تضعه تحت ضوء اللون والشمس. تهمس في أذنيه، فيرتعب فضيحة، كما العاهرة.
“الأنسى الأفعى”، حكاية سر الخلق من فجر آدم وحواء، حتى البرهة القادمة. حكاية تدفق الإبداع. يدان تقولان الحقيقة. تتركان للرائي إشتعال عينيه في تنور الصبية، وهي تقلب سخونة الرغيف على أوجهها. علها تبترد في القلوب الجائعة.
كيف لا توزع دلال العزي القيسي على الجوعى، زاد الأمس واليوم. ترى بعينيها السراق. تسمع وقع خطى اللصوص. ترى الهيكل يصفر. غاب عنه حراسه. أمطرتهم سحب سوداء، فأيقظتهم على خطوة عجلى، إلى المرتجى. إلى أمل ينبت تحت الركام، بعد جنون عدو. بعد موت مريب. بعد حملة قتل للصغار، يثغون مثل حملان، على نهر. على تلة . على درب، يتربص فيها الوحش. منذ زمن، كان الوحش، سيد البرية. ترسم أنيابه المرحلة. يلبس أثوابه كلها، ولا يعف عن صغير، يريد أن يكبر.
الإبداع يأتي من يدين راعفتين بالدم والدمع واللون، الخارج لتوه من القلب.
دلال العزي القيسي، ترسم خطاها، على الرمل. ثم تغادر مع الشمس، إلى مخدع الشمس، حيث تدفق الإبداع واليد القائلة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصي الحسين