ناجي بيضون في ديوانه: بين العصرين
جين الشعر
حين يصير/ الجيل/ممرا/ بين اليوم/ وبين الغد/ ماذايبقى/ من أشياء الجيل/ وأنباء الجيل/ حين يمر/ اليوم/ ويأتي الغد؟!.
هناك شعراء، إكتسبوا الشعر إكتسابا. وهناك شعراء تعلموا الشعر تعلما. وهناك شعراء، قلدوا الشعراء. كانوا يقلدون قصائدهم ويكررون تقاليد قصائدهم، ظنا منهم أنهم سيصيرون شعراء مثلهم. أما الشعراء حقيقة، فهم الذين كان لهم جين الشعر، قبل جين الموهبة الشعرية. وقلة قليلة من الشعراء، من تفاضلوا على غيرهم من الشعراء، بجين الشعر وبجين الموهبة الشعرية.
أراني على عتبات الأصيل
وبعد فوات الأوان
أراني… وبعد مسير طويل
أحاول
خرق جدار الزمان.
هكذا توارد إلى خاطري، وأنا أقرأ بعض القصائد، في ديوان الشاعر:
“ناجي بيضون. بين عصرين. دار غوايات. ط1. صيدا- لبنان.2023. 132 ص.”
ماذا أقول إذا أهل الهوى سألوا:/ ألم يضمك في أشعاره الغزل؟
ماذا أقول وقد أعطيت من عمري/ في الحب عمري ولم أسأل ولا سألوا!
فقد تجد في شعر الأستاذ ناجي بيضون، ما يدل على أنه يمتلك جين الشعر. بل جيناته. بل جنه، على ما كان يقول النقاد القدماء عند العرب. إذ كانوا يقرنون بين الشاعر وصاحبه من الجن. وأنه هو الذي يلقنه الشعر، ويدبج له القصائد. وقالوا أيضا: إن للشعر واد، هو وادي عبقر. تخرج منه الجن إلى أصحابهم. وقالوا إن أصحاب المعلقات كلهم، كان لكل واحد منهم، صاحب من الجن يلقنه الشعر. وحكوا في ذلك الحكايات الجميلة والمشوقة.
تأخذني عيناك/ حين تغرق النجوم في الخليج/ ويسكب المساء/ في أمواجه المساء/ تأخذني/ إلى رؤى صوفية منسية…/ جبة الحلاج.
والشيء بالشيء يذكر، فإن جبل الأولمب، كان موطن ربات الشعر. وأن الشعراء النوابغ، إنما كانوا يتلقون الشعر من رباته. وفي لندن، كانت شجرة الدلب في ساحته، محفل الآلهة. يسعى إليها الشعراء، لأخذ الشعر، من آلهته.
كتبت إليك كثيرا/ وعنك كثيرا/ وكنت الحبيبة، كل المواسم…/كوجه الوطن.
إذن، كان نبوغ الشعراء عند الأمم القديمة، إنما يرد، إما إلى جن وادي عبقر. أو إلى رباته على جبل الأولمب، أو إلى آلهته، على شجرة الدلب في الساحة العظيمة، وسط لندن.
يسكب/ في هذا الليل الراكد/ لون الفجر/ ويعيد لوجه العصر الجامد/ لون العصر.
أريد أن أضيف شيئا علميا محدثا، على نظريات الإبداع الشعري، ما دمنا في عصر العولمة و الذكاء الإصطناعي، لأقول بجين الشعر الذي إكتسبه، الشاعر الأستاذ ناجي بيضون، و ند عنه الشعراء الآخرون. فهو يقول الشعر، منذ يفاعته، على السجية. على السليقة. ولطلما إفتخر أمام سامعيه، بأنه لا يعرف عروض الشعر. ولم يمر بباب الخليل بن أحمد الفراهيدي، واضع الأوزان الشعرية. وأنه يعرف الخلل العروضي على السماع، دون أن يحدد البحر الذي جاء عليه الشعر. وهذا لعمري ميزة الشعراء الذين ورثوا جين الشعر عن أهلهم. ثم أدركوا جين الموهبة الشعرية، فأبدعوا، وحلقوا في أجوائه، ولم يلحق بهم أحد، من أفراد عائلتهم الشعرية.
أبحث في المقهى/ بين كرات بيضاء/ تتحلق فوق جريدة/ عن رأس صديق/ أخشى أن أنسى/ ملامحه…
هل نميز بين جين الشعر وجين الموهبة الشعرية. بالتأكيد أقول: أن نعم.! فربما أصاب جين الشعر عددا عظيما من العائلة الشعرية، غير أنه حين شب أحدهم وكبر، سرعان ما خذلته الموهبة. ذلك لأنه لم يظفر بجين الموهبة الشعرية.
ألإن العولمة/ رغم تألقها وغناها/ وحش يغتال التاريخ/ ويقطع كل طريق/ بين الأمس/ وبين اليوم…
د. ناجي بيضون
الشاعر المحامي الأستاذ ناجي بيضون، أصابت منه جينات الشعر كلها. أصابت منه حوافز الشعر كلها. أصابت منه تقاليد الشعر جميعها. فهو يرسل الشعر على عواهنه، ثم يسعى لمراجعته، حذفا وصقلا وتقليما وتهذيبا، حتى يثقفه ثقفا، ويصبح نصل الشعر بين يديه، كما السيف، يهديه مصقولا، لمن رغب: مديحا أو هجاء أو إفتنانا.
لو لبس القمع ثياب العسكر/ وأخفى تحت القبعة الكاكية/ لون القرن/ لصار الفكر بلون القبعة الكاكية/ وتدلى/ من مشنقة الجلاد الكاكي…
ديوان ناجي بيضون الأخير: بين عصرين، إنما يؤكد لنا جينات شعره وموهبته التي ذكرتها في مقدمة هذة المطالعة. هذة المراجعة. ذلك أن جين الشعر عنده، إنما يتأقلم مع زمن الشعر، ولا يشذ عنه. وهذا بحد ذاته، لمما يميز شاعريته، عن سائر الشعراء.
حين يزول الرقم/ الأوسط/ هل يتساقط/ من هم فوق…
منح الشاعر ناجي بيضون نفسه، إجازة إستذكار أحلامه القديمة، في الطفولة والفتوة والشباب. تحدث عن موضوعات، عالقة بذلك الزمن الجميل من الأحلام. تراه يرسل القصيدة تلو القصيدة، كمن يعري الوردة ورقة ورقة. هو حقا شاعر تعرية الغصن الذهبي من عمره. فلم يدعه منسيا على أوراق الزمن، بل حدب عليه، يجعل منه قصائد جميلة.
كل الأشكال…/ على هذا الكوكب/ لا تخضع إلا/ لجمال التشكيل/ والمرأة دوما/ أجمل..
تجليات العصر الرومانسي عند ناجي بيضون، واضحة كل الوضوح. تشي بجين الشعر الذي يخفيه بين شرائح لحمه ودمه. الذي يخفيه في أنفاسه وفي آهاته. فكل حركة، هي تقلص عضلة من عضلات القلب. وكل تأوه، هو آهة من آهات الروح. يعيد إلى الأذهان أحداث الفيلم الأميركي، الحركة والإثارة/ أنستوبابل، بحيث يصبح قطار الشعر عنده غير قابل للإيقاف. ينطلق في الوصف. يجعل قصائد الوصف في عرباته، كما في قطار سريع الحركة. بحيث لا تستطيع اللحاق به. فما بالك، حين تقف الذاكرة بالشاعر، على شفا جرف عظيم من جرم الشعر.
أحمل قلما/ مثل الرمح/ ودفتر شعر/ مثل الترس..
وأما قصائده في العولمة و عصر الذكاء الإصطناعي، فهي تخرج للتو من حاسوب نفسه. يقدم منها النسخة تلو النسخة، حتى لكأنه يقول القصيدة الواحدة، مرات ومرات. فيعجب المرأ لهذا النوع من الشعر المكرر في البدائع، وهو لا يستطيع أن يحبس نفسه ولو لبرهة واحدة، عن الإندهاش والإنبهار، لا على أساس ما قدم من قصائد كثيرة و ممتعة، بل على أساس ما كرر من أبجدية الشعر، في قوالب أنيقة.
المرأة أجمل/ أعقل/ المرأة أكمل..
ناجي بيضون حقا، من أسرة الشعراء الذين يحملون في طواياهم جين الشعر، وجين موهبة الشعر. ولهذا تراه دهره، يهدر بلا توقف، كما القطار من السحب، يرسل مطره متى شاء. وأينما شاء. وحين يشاء، وكأنه يغرف من نبع الجن. من نبع الجينات. لا أدري!
حين أصطاد/ ملوك الأرقام/ كل الأحلام/ وأحتكروا / كل الكلمات…
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د.قصيّ الحسين