نهر الحبر الحسّانيّ ولذّة الغرق
قراءة د. جوزاف الجميل في ديوان ” نهر الحبر ” للشاعر عصمت حسان
-×-×-×-×-
نهر الحبر ديوان جديد للشاعر الصديق عصمت حسان. إنّه ديوان الحبر النورانيّ يفيض علی صفحات القلوب عشقاً وفخراً وألقاً.
وحبر الشاعر الحسّانيّ ليس مداداً تُدبّج به السطور، بل انه فيض من دم القلب والجرح، يحوّل بخيميائه الكلمات إلی ذهب عاطفة متأجّجة الخفقات.
يذكر الحديث الشريف برواية البخاريّ أربعة أنهار في الجنّة، هي النيل والفرات وسيحان وجيحان. ولكنّ الشاعر الحسّانيّ يضيف إليها نهراً خامساً، هو نهر الحبر، بل نهر الحبّ.
بين الحبر والحبّ جناس ناقص لا يكتمل إلا بالشعر. والشعر الحسّانيّ فلذة من كبده، لأن بينهما غراماً أزليّاً، وعناقاً لا ينتهي. إليه ينتسب الشاعر إذا افتخر كلّ إنسان بجدوده والآباء.
بين الحبر والحب رابط عميق يمتدّ إلی الجذور، هو الشعر في سقسقة قوافيه، وتشاكل معانيه، وفي بوحه الذي يكشف أسرار الهوی، وأصدق المشاعر.
إنّه الشعر /اليقين في عرف الشاعر الهارب من شكّه كي يصبح نبيّاً، ويقرأ”سورة العصيان”(ص 109)
الحق يُقال: إن افتخر أبو نواس بخمرته، حتی جعلها عصيّة علی الحزن، وقبله الشاعر الأخطل الذي جعلته الخمرة أميراً علی الأمير، فإن الشاعر عصمت حسان حوّله الشعر إلی نبيّ، وإلی ثريات تضيء الأرض المعتمة:
نحن الثريّات حين الأرض معتمة
والحرف والسطر والأحبار والصحف(ص 16)
وإن تغنّی المتنبي مفتخراً بنفسه، فإن الشاعر الحسّانيّ يعلن أن مقامه فوق الشمس:
ففوق الشمس كم يسمو مقامي(ص 129)
لأنّه شاعر من دعاة الخير والطهر والكمال:
وأبني كلّ بارقة لخير
ليعلو الطهر في جود الغمام(ص131)ٝ
وذلك لأنّه شاعر الرؤيا، إمام الشعر والشعراء:
أنا المهجوس بالرؤيا وخلفي
حشود مسّها جمر الغرامِ(ص 131)
الشاعر عصمت حسان
وإن كان الشاعر الجاهليّ المدافع الأول عن القبيلة والقوم، فإن الشاعر عصمت حسان مستعد للتضحية بنفسه فداء عن بلاده. يقول:
من أجلها
أعطي حياتي كلّها
وأموت كرمی الأرض
لمّا تسألُ
هذي بلادي
من ثراها مقلتي
وأعيش عزّاً
لو فداها أُقتَلُ(ص 210)
جراح الشاعر الحسّاني عميقة. وأعمق منها تخاذل أبناء وطنه، وخنوعهم. لذلك يدعو في شعره إلی الثورة المزلزلة. وعلی غرار الشاعر خليل حاوي يحثّ علی خلع الوجوه المستعارة، أقنعة الصمت، لأنّها تبتسم علی الرغم من القهر والظلم. فيعلن يأسه من هذه الأقنعة المتخاذلة، ويدعو إلی ثورة لا تبقي ولا تذر:
عكس المقادير تمشي
أيّها القلمُ
فاصرخ لأجلي وخلِّ الكون ينهدمُ(ص 214)
والكون المقصود في هذه الأبيات هو كون الفساد والظلم والقهر، من أجل بناء المدينة الفاضلة، مدينة الشعر والشعراء
عصمت حسان، أيّها الشاعر الجريح بالمحبّة، المكبّل بهموم الشعب والوطن، عظيم إيمانك بالشعر والوطن. شعرك كلّ أجنحتك(ص 103)تهبه روحك، فيحلّق بك
إلی عالم النور(ص 104)، حيث لا ألم ولا فراق:
تفرّقنا الحياة
ولا نهاب
وتجمعنا القصيدة والكتاب(ص 105)
عصمت حسان، مباركة محبّتك المتدفّقة من نهر حبرك المقدّس. مبارك إبحارك في عالم الشعر، رسالتك الثورة والإنقاذ. تغمس ريشتك في دماء القلب،
“الحسناء بالعسل”(ص 174)؛لأن شعرك الملتزم قضايا المرأة والوطن وفلسطين والأمة العربيّة حوّل حياتك إلی جلجلة، وعينيك إلی سحاب ممطر، وروحك إلی “قيثارة الأزل”(ص 175)
عصمت حسان، نهر حبرك اخترق أعماقنا الثملی بالحب، جرفنا في مياهه الكوثريّة إلی عالم لذيذ الغرق، فلم نستطع البقاء علی ضفّتيه؛ لأنّ”الشعر للعشّاق بابُ”.(ص 105) وخلف هذا الباب روح الشاعر العاشق، نور ساطع بالحق والخير والجمال.
د. جوزاف ياغي الجميل
د. جوزاف الجميل