تجارة الرموز في زمن القضايا الكبرى
للكاتب المهندس أحمد بن لطفي السنوسي
المرسلة/ الكاتبة والشاعرة سليمى السرايري
–
إنّ صناعة الرموز أمرٌ له ما يفسّره في فترات التغيير والانتقال، إذ يكتسب الرمز صفته من كونه يدلُّ على فعل “غير عادي” لم يسبقه إليه غيره، وهذا الفعل مشحون بالمعنى والقيمة، فنكون بذلك إزاء صورة انطلقت من الواقع، وتحوّلت شيئًا فشيئًا إلى صورة مفارقة لهذا الواقع مُحاطة بهالة من التعظيم. وإنّ هذه الصورة تحافظ على رمزيتها إذا بقيت (رغم مفارقتها للواقع) مثالًا يُرام، ويُقاس إليه الواقع كصورة عليا عنه، لذلك تكمن قيمتها (رمزيتها) في كونها تحمل في أحشائها بذور فعل معيّن في الواقع.
في المقابل تكمن خطورة الرمز في كونه على تماسٍ دائم بفكرة “المُتعالي”، إذ يعجز خيالنا عن فصل البشري عن الإلهي، وسرعان ما يحدث هذا التماهي بشكلٍ غير متعمّد، فنجد أنفسنا أمام إلهٍ يخوض تجربة تاريخية، فينتج عن ذلك تجميد الإمكانيات داخل هذه التجربة، وتحويل المحاولات إلى حتميات، والتقديرات إلى أحكام ووصفات خلاص وفوز دنيوي يعقبه فوز أخروي. إنّ هذا الاستعداد لتحويل الرمز إلى صنم يطرح علينا سؤالًا جوهريًّا عن مسار تشكّل هذا الرمز وصناعته، وعن ضبط دائرة فعله وفاعليته كشرط للحفاظ على جوهر صفته (الرمزية).
ولتقديم مؤشرات إجابة عن هذه الإشكالية لا بدّ من مساءلة طرق صناعة الرموز في زماننا الحالي، إذ بشيء من التتبع والتقصّي يتجلّى لنا أنّ “مصانع الرموز” في عالمنا هي غرف تديرها عقول تعرف ماذا تريد وكيف تحقّقه، غرف يلتقي فيها رأس المال والاستبداد وقوى الاستعمار، وتتخذ من الفضاء الافتراضي وشبكات التواصل الاجتماعي أحد أهم مجالات “الغراسة” لفسائل تقع تغذيتها وتسميدها وريّها حتى تصبح “عالية”. إنّ أولى خطوات الصناعة هي إضفاء قيمة تصويرية على فعل الشخص المعني، إذ لا يمكن نحت ملامحه في أذهان الناس دون إشعارهم بانتمائه إلى صورة تخييلية ذات معنى. ثم تكون الخطوة التالية بتعزيز القدرة التنافسية لهذا الرمز في “السوق”، إذ لا يمكن تقاسم المجد مع منافسين آخرين، لا بدّ من احتكار المجد بتعزيز الطلب على هذا الرمز الجديد، وهذه من أكثر الأفعال غير الأخلاقية في “عملية التصنيع”، إذ تقوم على المغالطة والكذب والتشويه والاتجار بآلام الناس وأوجاعهم، وتوظيف نبل مشاعرهم وصدق نواياهم، وتحويلها إلى نقاط ضعف تُستغلُّ لغرض شخصي. ثم نأتي لآخر مرحلة، وهي الذروة أو “نصف الإله” التي يصبح فيها للشخص/ الرمز صورة عليا مُحاطة بهالة من التقديس، مات فيه البشري بمعنى النسبية وحضر الإلهي بمعنى الإطلاقية والجبرية، وهذه هي مرحلة التجارة أو “الربح” التي تغيب فيها القيمة الحقيقية، ويبزغ صنم “القيمة التجارية” المفرغة من المعنى والمجرّدة من الفاعلية، هي أشبه بجرعات التخدير التي تتلقاها الجماهير لترضي ضمائرها وتستمر في هوانها وقعودها دون إحساس بالذنب.
إنّ الرموز والصور العليا هي شكل من أشكال
الاعتراض على الواقع ومقاومته
إنّ القضايا الكبرى والمحطات الفارقة في التاريخ تحتاج رصيدًا من المعنى والقيمة يتشكّل كتجربة معنى جماعية تخوضها الشعوب من داخل واقعها وأشواقها وأحلامها لتكون “حقيقية” غير مشوّهة بلَوثات “مصانع الرموز” التي نقلت النمط الاستهلاكي لمشاعر الناس وآمالهم وحوّلتها إلى تفاعلات آلية مُملة ومكرّرة تهمل حركة الإنسان ضمن التاريخ وتُغريه بطريق معبّد قصير يصله سريعًا بالخلاص الفردي. إنّ تجارب المعنى تتحوّل شيئًا فشيئًا إلى تجارب مستغرقة في الفردانية لا تطلب إلّا الخلاص الفردي ومزيدًا من الأنانية، وكلّ هذا يقدّم ويصوّر بنماذج عن نجاح مزعوم أو تديّن يقترب في فلسفته من فلسفة صكوك الغفران وطقوس التعميد، أو حتى مقاومة بلا جذور تستجدي العطف وتلهث وراء تحسين فرص المعيشة. إنّ هذه السيولة في المعنى والقيمة لم تعد مقتصرة على “فضاءات التفاهة”، بل تسرّبت إلى “القضايا الكبرى”، فتفرغها من الفرص المكتنزة داخلها بالمقاومة والتحرّر ليطال التشويه ما نعتبره منطقتنا الآمنة وحصننا الحصين ويجرّده من معناه ويصنع له معنى جديدًا سائلًا لا يصمد أمام الهزّات ويغرق الحقيقة في الأوهام.
لذلك أمامنا معارك صعبة ومعقدة سيكون عتادنا فيها يقظة العقل وانتباهه ورحابة الخيال وامتداده، إذ إنّ عالمنا مُقدّم على تغييرات جوهرية تتطلب منا شجاعة في خوض معركة الرمزيات والتحلّي بشجاعة السؤال عن كلّ ما مررنا به من أحداث ووقائع. إنّ الأمم المهزومة نفسيًّا والمُقعَدة فكريًّا لا يمكنها أن تصنع رموزها الحقيقية، بل تقتني رموزًا من “سوق الرموز” لتُشبع أوهامها وتنسى واقعها وتستُر عارها. أما الأمم التي تتخذ المقاومة فلسفتها وتصوغ نمط عيشها، وفق قواعد تُعيد لقيمة الإنسان وجوهره مركزيتها، فهي تستولد رموزها من تجارب فعل تاريخي مسؤول يكون الرمز فيها ابن بيئته، مُحتفظ بذاكرته ومشتبك مع قضايا واقعه، يزوّد الناس بطاقة فعل مقاوم مستمر، ويكسبهم الشجاعة على خوض تجاربهم على كلّ الجبهات، وفي كلّ المضارب دون استعجال أو خوف. إنّ الرموز والصور العليا هي شكل من أشكال الاعتراض على الواقع ومقاومته، إذ تنطلق منه وتصارعه لتقوّض شروطه، لا لتطبّع معه أو تزيّن قبحه.
الكاتب أحمد بن لطفي السنوسي