الفضيحة
نصّ ملحمي للشاعر والناقد الدكتور مراد العصيدي
( تونس / المرسلة الشاعرة سليمى السرايري)
-×-×-×-×-
خبّأت كلّ الخطوات في حقيبتي ورحلت. جبت كلّ المدن وكلّ الصحاري، مررت بكل العشائر. وعلى عجل شربت شربة ماء. وواصلت …حصدت كل الفصول. أحصيت أشجار الزيتون في طريقي شجرة شجرة. وحين وصلت. طالعني الوجه الصبوح. أنت هنا قلت. فهذا عطرك. وهذى الكروم هويتي…سلّمت إليها قلبي. وسلمت عليها …
1
عندما سلمت عليها
قفزت في البهو خطاطيف
نبتت كروم…وفاض سياق
هب أنّك لم تر أسوارها
لم تتعطّر بأشجارها
سيفجأك ظلّها
ستقفز من مرابضها خيل
ويعلو البلاد غبار قديم
هب أنّك فتحت الشرفات المطلّة
على شارع قلبها
ستتهاوى نصوص
نص يصفع نصا
نص يحرق نصا
أناديك… فتسمعني المواعيد… تسمعني أشجار الصندل. يسمعني البهو السرّي
أناديك فتسمعني اللغة…وأتدلى…أتدلى. أتدلّى
مثل كلام الوداع
لم يبك الشهيد حين تأخّر مطر الرّفاق
حين ارتبكت الأشجار والأقمار
لم يبك حين تعطّبت اللهفة
وتعطّلت طرق التأويل
لم بيك الشهيد…لكنّه كتب نصّا مبلّلا
2
عندما سلمت عليها
عاد حرّاس السياق خائفين
ومن قعر الرّيح يهجس صوتها:
ــ أنْ كيف تراني إذ أتيت؟
أتيت كما تأتي عندي حروفي كما يأتني الوحي شعرا ينازل
وقد كنت أقسمت قطعا يقينا بأن لا حروف لشعري تغازل
أتيت بعصر أرى فيه زيفا به الحبّ عرض بسوق المهازل
ــ ومن أنت في غواية هذا النشيد الأخير
أنا…
أنا يا نشيدي امتداد لعصر أثار الهوى فيه أعتى الزلازل
ورثت الهوى والقوانين شرعا كقيس لليلى برغم العوازل
(… يقف المركب… وفي مسافة الصفر يتعثّر المدّ…يهجر الضوء غرفته… تغيب الشمس ،، ترتعش الفوانيس المعلّقة والكؤوس …يحمل الماء حقائبه ويمضي… تندلع الفضيحة (هنا) ثم ينسكب دم الحلم قطرة… قطرة)
وهناك (غير بعيد)
فوق الأرض الكرسي
ثعلب يشاكس المرآة
يسخر من أنوثة الشمس
يقدّ من الفاتحة قميص الحزب
يعابث ذيله وليله. يعدّل من شيخوخته. يخبّئ ضحكته النزقة. يهتف بحياته الرجال والنّساء. الأرض والسماء…تحيط به ثعالب الدنيا وقصص الدنيا. يتداخل من أجله اليمين واليسار. يتبعه التأويل. تتداخل في محيطه الألوان والظلال. والزّغاريد….
(لكنّما… لكنّما فجأة)
يتوارى الثعلب عن الأنظار. ينتظر الجياع رجوعه. يتوعّده السّكارى. ينقلب عليه دعاته.
(منذ خمسة وعشرين قمرا والثعلب يئن.وقيل إنّه صُلب أو …مات)
3
عندما سلمت عليها
ارتعش التّاريخ في قفّة فقير مهزوم
غيّرت الأشجار منابتها
تحرّك زندي… صارت الرّغبة أثقل من نبضي
صرت أتهجّى الحضور الجميل الجميل
وعلى قاب نهدين أو أشهى
أرى… ماذا أرى
أظافر مغروسة في الرّخام
عربا جاؤوا … وعربا غابوا.
نفطا يُباع بالمزاد…نفطا معطّلا في المحيط
سفنا مصلوبة على الكبد
نهودا معلّقة على فتوى
جثثا مبلّلة بالتّأويل
أرى …ماذا أرى
مسيرة في شارعين
أرى اليسار مغموسا في فرشاة الألوان وفي عناوين الأغاني
أرى ميم اليمين تميل حيث صلاة العصر الموازية
وعلى قاب نهدين أو أشهى
أرى…ماذا أرى
أراك تتقاطرين كالقصائد أو كالرّصاص
شعرك بكاء الليل
وجهك برق. أو ارتطام ما قيل بما لم يقل
ولعينيك ـ حين عانقت عيني ـ ساقان من جرح
وعلى قاب نهدين أو أشهى
صدرك المقفل بأشجار اللوز… المفتوح على الظلال. هل كان لصدرك ماء الفصول
هل كان لصدرك حياء الفصول …. لا بأس. فصدرك العاري تغطّيه البلاغة
وليكن. فهذي البلاد غزالة
والزرقة…تلك الزرقة ذئب يعوي في قميص
لسانه قطار…لسانه رفيف جناحين من قيح وكذبْ
خسئ الذئب “شيطان يتبع شيطانه”1
وهذي البلاد غزاله
فاخرجي من جثّة التأويل
اخرجي من فراغ النشيد
اخرجي من نكسة المعنى
من طقوس السّواد والموت اخرجي…
واسكنى ضوء السنابل. وضلع اليقين
4
عندما سلّمت عليها
أغمضت ذاكرتي
فرأيت المفردات ترتدّ عن مواقعها
تهجر السياق، رأيت الحروف تتمطّط. تتشوّه
والمشتقّات تتأوّه
رأيت المفاعيل تهتزّ مثل أسماك الرّغبة
من أنت حتّى يخرج الأسلوب عن النص؟
من أنت حتى تثورَ الفكرة الموجعهْ؟
من أنت حتّى تتراجع الهوامش وتتلوّى السطور مثل أفعى…
أو مثل حقيقة مربكهْ
5
عندما سلّمت عليها
صار الحضور نصف الشجرهْ
صارت الشّجرة سقف موعدنا
أبحث عنك في كلّ المحطّات
أقرؤك في كلّ اللاّفتات
أحفر هوامش النصوص
أضيع على أطرافك أصابعك
وأعلى
أتهجّى شفاهك قبلة قبلة … وأعلى
اهتزّ مع رقّة الحرف الطالع من أرضك
أنبت شجرا برّيا
ثمّ أضيع في دغل البلاغة ماء…أيتها…
اللغة القحّـــ….
…القحّة أقصد
من قعر النسيان يهجس صوتها
مثل مركب صيد محمّل بالوعود
أن حدّثني عن رسّام فقير يرسم الخبزة و. يأكلها
حدّثني عن ماء الشّعر، وشارات الوجع والحمّى
حدثني عن قبلة مصلوبة بين عاشقين في منتصف الوداع
عن وردة مذبوحة بين عصفورين في سحابة
أحبك…وأعلّقك فوق الحبّ مدينهْ
في المدينة حبّة قمح… أنت أرضها وماؤها
أحبّك… وأقبّل ثغر الأصابع وبياض الجنون
أشرب ماء حديقتك… أفكّك شبق النص المرتبك
من يكتب ـ يا صاحبي ـ كمن يفتح أزرار ثوبها حرفا حرفا.
أضافت
(وقد انخفض صوتها.ثمّ علا)
ــ حدثني عن أفواه السّوس المفتوحة
عن سوس عربي نخر دمنا
ـ الشاعر الثائر طبيب أسنان
والقصيدة التي كتب
عضّت السلطان
عندما سلمت عليها
انشقّ قعر الأرض وعاد حرّاس العشق مرتجفين
عاد الضبع والذئب والثعلب والزرقة والعرب والرّخام
والجفاف وصلاة الاستسقاء والقطّ الظريف.
إذن. لم أكن وحدي
كان حفيف الأشجار يهزأ بالغياب.
…………………
أخفيت رعشة الزند أياما
حتى صرت أحدب
صار المجاز عصاي
صار العجز ابن عمي
جفّت رائحة الندّ
جفّ دمع الحكاية
وخفّق كلّ شيء…كلّ شيء
عندما سلمت عليها
نسيت عندها شيئين
…الأصابع واليدين
وعندما قبّلتها نسيت شيئين
السرّ والشفتين
وعندما أدركت ــ أخيرا ــ
أني نسيت الأصابع واليدين والسرّ والشفتين
خفّقت ثمّ طرت. لكني نسيت شيئين
عينيها والجناحين.
-×-×-×-×-
هامش على الكتابة
أما الآن وقد نبت لفلسطين جناحان… قدمت الوفود المهنئة. فأرسلت الغابات ظلمتها الخضراء. وأرسل النّمل حكمة الأرض وأرسلت البحور إيقاعاتها الطويلة وقوافيها وعللها وزحافاتها… إلا العرب. فقد تغيبوا. ونرجو أن يكون المانع خيرا. تغيب العرب. لكنّهم أرسلوا سراويلهم.
الشاعر مراد عصيدي
نصّ ملحمي كبير يستحق النشر واكثر من قراءة– انت الشاعر الذي يمتلك ناصية الحرف فيطرّز القصائد بأسلاك الذهب… تحياتي
شكرا للكاتب والاعلامي الأستاذ يوسف رقة على نشر هذه الملحمة على اعمدة الموقع الإلكتروني “ميزان الزمان” بيروت/لبنان
قصيدة ملحمية طافحة بالشاعرية والاقاويل الجدية… شعر ملتزم وخطاب متسق متلاحم الاجزاء منظم التعابير كثير المجازات والصور المبتكرة… تجربة الشاعر العصيدي تستحق الدرس المستفيض والقراءة المعمقة
قمة الابداع
شكرا على الدعم… عسى ان نصنع من فوضى هذا العالم نصا
كتابة خارج سرب الأجناس والأشكال تعانق الابتكار والتجديد….مع الاعتزاز
نسق الكلام من فوضى الواقع،شوق و حب و قبلات، والواقع عبرات و رائحة الموت تنبثق حياة… هم يستحقون وحدهم الحياة رغم العبرات و العرب في سباتهم يتنفسون الفضيحة.
شكرا للشاعر مراد العصيدي فابداعك كاشف لبدعهم.
شكرا صديقي البهي… لنا الفن الكتابة حتى لا تقتلنا الحقيقة.. كما يردد نيتشه
شكرا صديقي البهي… لنا الفن الكتابة حتى لا تقتلنا الحقيقة.. كما يردد نيتشه
شكراً دكتور على هذا الإبداع