مطر تولوز – toulouse
ما عرفت مدينة في حياتي، بهذا الغنج والدلال الأنثوي الراقي، إلا في مدينة تولوز- Toulouse، حين وصلنا إليها تحت الشمس. وخلدنا إلى الراحة والنوم في ساعة متأخرة من الليل. وحين إستيقظنا في التاسعة صباحا، وجدنا تولوز- Toulouse العروس، قد سبقتنا إلى “الدوش”.
كان المطر ينهمل ناعما ناعما، حتى وجدتني أتعجل للخروج من البيت، والوقوف لسويعتين، تحت سقيفة عامة، في محيط الساحة، فوق المترو. أصغي إلى هسيس المطر. كانت قبالتي بطة من الرخام. أو قل بجعة، تستحم كعادتها، في الصباح المطير. إلتقطتها فرصة، لتنعم بالرذاذ، الذي خصت به السماء، عموم أنحاء المدينة، بلا تمييز.
كان مطر تولوز- Toulouse يغسل وجهها. فترى الأرصفة تتلألأ ضاحكة. ترى بلاط المدينة، كأنه، من تفاح. كأنه من وجنات بالغت في تأنقها. كأنه من خدود الحسناوات الرشيقات. من ثغور الجميلات. وكانت السقائف، ينسدل عليها المطر، فتسرح منها الشعور، ويبلها بالعطور. كانت الشوارع، تفتح ذراعيها لك الذين إستيقظوا باكرا ذياك الصباح. يجرون وراءهم حقائبهم، فترى وجه المدينة، لا يبخل عليهم، برشة عطر. حين يستقبل الغمائم والحمائم، فوق بنات ماء السماء.
ما أجمل تولوز- Toulouse، حين تنسبل أعطافها تحت مطر الصباح. تصغي إلى طبيعتها تحت زخات الغمام، فتتميال العمائر. تتراقص الجدران، يلتمع زجاج الواجهات. زجاج النوافذ. زجاج الحافلات، القادمة للتو إلى المحطة. تريد أن تشارك المدينة، بإحتفال السماء بها. فتولوز- toulouse، كما وجدتها في اليوم الأول، هي هبة الشمس. وأما في اليوم التالي، فكانت: هبة المطر.
لم أعرف مدينة، تغسل أقدام زائريها، مثل تولوز- Toulouse. كنت أرى كيف تستطيع مدينة أن تمازج هبة السماء بهبة من دموع الحنان. من دموع العشاق. من دموع عشاقها.
تركنا خلفنا الفندق، في الساحة العامة، قبالة محطة الحافلات والقطارات، وهمنا على وجوهنا بلا حذر. كنت أقول، كلما سمعت نحنحة. كلما سمعت عنعنة تحت المظلات: ألا بمثل هذا فلتجبر خواطر الزائرين ل تولوز-Toulouse، وإن طالت صحبة المطر.
ما تأخرنا، قيد أنملة عن مواعيدنا تحت مطر تولوز-Toulouse، في الطريق إلى ساحة الكابيتول-Capitole. كنا بصحبته، نغني، كما الرعاة الأولون، أغنيات المطر. فيرجع لنا من الغارون الصدى، مبللا بالشوق لأنفاسنا. لآهاتنا. يهامسنا من بعيد: تعالوا إلي تحت عطر المطر. ثم يكمل إنسيابه. ينساب الهوينى. الهوينى. فتملأ ماؤه أجفاننا. يهزنا مرة أخرى، كما هزهزنا تحت الشمس. كما زهونا تحت الشمس. فيرانا كيف نزهو مرة أخرى، تحت المطر.
كانت جسور الغارون، كما أوتيل ديو، كما “قائم الماء”، كلها تستنشق العطر، من الرذاذ الجميل، يتحف منا الخدود. يتحف منا الأنوف. يتحف منا المناكب والحقائب. حتى المظلات، حتى أكفنا، كانت تنشد لنا نشيد المطر.
كان الإياب مثل الذهاب، أوبة من عرس تولوز- Toulouse. تلك المدينة التي برحت عشاقها. كان الزائرون لها تحت المطر، مثلهم تحت شمسها. قطارا قطارا، توافدوا إليها. ثم إذ هي تزدحم تحت أقدام زوارها: في الساحات، في الباحات، أمام الواجهات، في الأسواق. في مقاهيها، وفي مطاعمها، وفي فنادقها. كان مطر Toulouse، يجمع الناس في قلبها. ينغمسون في صحنها، يغمسون الحب مع الأرز. يرتشفون قهوتها، وكأنهم من أهلها.
لا أظن أن هناك مدينة في الأرض، تحنو على زوارها. على عشاقها، في عز المطر، كما كانت تولوز- Toulouse، وهي تحنو لنا. تحنو علينا.
هناك بين جنباتها المخضلة بالدفء والمطر المسف، كانت تهيل علينا تولوز- toulouse من نعمائها: فرحا وقمحا. كنا نستسقي منها، بين يدينا رحمة لم نذق مثلها: رحمة المطر. آه! ما أحيلى سويعات تولوز-Toulouse، تحت المطر. كأنها كانت تمطر في القلب. كنا نذوق بأشفاهنا يوما، مطر Toulouse، غب خروجها خلفنا، حين خرجنا لوداعها!.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
هنيئا لتولوز عاشقها “القصي” المتيم بها منذ أوال لقاء! بذ وصف طلته ابن بطوطه والإمارتين في وص طلته على لبنان
– اكرر : قصي يغرف من بحر “جرير” ، القرن العشرين والواحد والعشرين ، حماه الله لمزيد من العطاء