” زمن الغربة”
(مهداة إلی الأديبة ن. ع.)
بقلم د. جوزاف الجميّل
-×-×-×-×-
ضبطتها بالجرم المشهود، وهي تتفرّس في وجهي،
وأنا واقف أمام مكتبة، في سيدني.
نظرت إليها نظرة استغراب. شعرت بها تجتاح كياني مثل دوّامة. تشدّني نحو الأعماق.
أمسكتُ طوق النجاة بكلتا يديّ. وابتسمتُ بصمت مريب.
أحسّتْ بالإحراج لارتباكي أمامها. قالت بعد تردد، كأنّها تحاول إنقاذي: ألست فلاناً؟
وفلان فعلاً كان أنا. ولكن كيف عرفْتِني؟ أجبت كأنني أكلّم نفسي.
قالت : أنت الذي تكتب باسم الحب.
-نعم. ولكن هل وصل كتابي إلی أستراليا؟
أجابت وهي تبتسم: أنا فلانة. لبنانيّة من بيروت. وكان لي الشرف أن تكتب عني، في إحدی مقالاتك.
-عرفتك. ولكن لم أتوقع رؤيتك، هنا، في سيدني.
-أنا في رحلة استكتاب.
-عذراً. لم أفهم نوع رحلتك. يقولون استجمام، عمل، ولكن استكتاب جديدة عليّ.
-أبحث عن موضوع لكتابي الجديد.
-وهل وجدته؟
ا-ليوم .
-وما موضوع كتابك؟
أ-نت.
-أنا؟
-نعم. وسيكون عنوان الكتاب: غريب في سيدني.
ضحكت، مقاطعاً: بل غريبان في سيدني.
لماذا؟
-لأننا نسيبان.
-وكل غريب للغريب نسيب؟
.- صدقْتِ.
أنا لست غريبة. أنا ابنة المكان الذي أكون فيه.
نحن غريبان في الزمان، لا في المكان.-
-وكيف ذلك؟
-كان ينبغي أن نولد قبل ألف ومئتي عام.
لماذا؟
-تجري في عروقي دماء شهريار.
-شهريار أسطورة، لا حقيقة.
شهرزاد هي الأسطورة؛ لأني لا أؤمن بوجود امرأة تجيد ترويض الرجل الشهريار.
-شهريار رمز لأقسی حقيقة مؤلمة في التاريخ.
-أنت امرأة. فهل يمكنك أن تشرحي لي لماذا تفضّل امرأة عبداً علی السلطان؟
-للانتقام .
-وممن تنتقم امرأة السلطان؟
-من شعور بالعجز والاحتقار. عندما تصبح المرأة سلعة يستيقظ فيها روح التحدّي، لإثبات الذات.
-وهل يكون ذلك بالخيانة؟
-ادّعت الخيانة ولم تخن. حاولت فقط كسر المرآة.
-المرآة عكست صورة امرأة خائنة.
المرآة عكست غياب العدالة، وخيانة الرجل، لا المرأة.
-كيف ذلك؟
-ألم يكن شهريار خائنا حين تزوّج مئة من النساء؟
-هو حق من حقوق الرجل.
-بل هي الخيانة الموصوفة، وإن أضفی عليها الواقع شرعيّة مزيّفة.
-الواقع سمح أن يقتل شهريار نساءه، بعد الليلة الأولی من الزواج.
-ألهذا السبب تود أن تصبح شهريار؟
-بل لأصحّح التاريخ.
-وكيف تصحّح التاريخ؟
-أعيد عقارب الزمن إلی الوراء. أطلّق نسائي المئة، وأكتفي بامرأة واحدة، أرضي أنوثتها.
-وأين تجد تلك المرأة التي ترضي رجولتك؟
-وجدتها.
-من هي سعيدة الحظ؟
أنتِ.
في أحلامك.
-نحن غريبان في سيدني
-لا يمكن أن يجمعنا الواقع.
-يجمعنا حلم واحد، بلا بداية أو نهاية
-حلم الرواية.
-متی تعودين إلی الوطن؟
-عندما أكمل حلمي الطويل. وأنت؟
-أعود حين تصبح الرواية واقعاً أجمل من الحلم، فينتهي زمن الغربة.
د. جوزاف ياغي الجميل