أماكن عامة/ كلية الآداب
في محلة الأونيسكو، وقبالة مبناها التاريخي، وتحت كورنيش المزرعة وفوقه، تقع مباني كلية الآداب بجوار السفارة السوفيتية/ الروسية اليوم. هي عدة مبان، بل عدة عمارات سكنية، إستأجرأتها الدولة، لوزارة التربية. وأما وجهة إستعمالها، فهي قاعات تدريس. ومكتبات وإدارة وعمادة، لكلية الآداب والعلوم الإنسانية.
تعرفت إليها في الأسبوع الأول من تشرين الأول من العام1969. كنت قد عينت مدرسا في مدرسة طيرفلسيه، وإلتحقت بها في1/10/1969 بقضاء صور. وصارت بيروت محطتي، بين الشمال والجنوب. صارت بيروت منتصف الطريق، آتي من عكار، لألتحق بمدرسة في قرية وادعة من قرى صور. كنت أسأل معارفي، ممن سبقوني في معرفة موقع كلية الآداب، ومن أين آخذ السرفيس إليها. وصرت أنزل من نقليات الأحدب، في ساحة البرج، وأذهب بالتاكسي إليها. حتى رأيت أستاذة جامعية من طرابلس، نزلت من نقليات الأحدب فوق جسر النهر، وإستقلت باص الدولة، من محلة النهر. ذهبت إلى كلية الآداب، عبر أوتستراد المزرعة. وصلت قبلي إلى الكلية، فأنبهتني إلى طريق أقصر من طريق ساحة البرج وبرج أبي حيدر، للوصول إليها.
كانت كلية الآداب مدهشة. مبانيها الجميلة، فتنة في تلك المحلة الراقية. كانت الإدارة تفتح أبوابها منذ الثامنة صباحا. وأما التدريس فيها، فيتأخر حتى الساعة الرابعة عصرا. كنت أسأل عن ذلك، فيقولون: إن الإدارة أخذت بعين الإعتبار، عمل طلابها في النهار. فجعلت ساعات التدريس، تتأخر لمصلحة ساعات العمل. فالطلاب، معظمهم يقضون نهارهم، إما مدرسين، أو كتبة، أو في مصلحة حرة. ينفقون على أنفسهم، من دخلهم اليومي أو الشهري، حتى يتابعوا الدراسة.
كان يوم السبت من أيام التدريس الجامعي، رغم عطلة الإدارة. أفسحوا في المجال للطلاب البعيدين، أن يستفيدوا من يوم عطلة رسمية. فكنت، أغادر طيرفلسيه، ظهر الخميس. أنام عند الزملاء الذين أعرفهم حتى صباح الأحد. كانوا مثال النجدة. مثال الإيثار. مثال الشجاعة. أما حين تضيق بي الحال، فكانت نقليات الأحدب في إنتظارنا حتى الساعة التاسعة أعود بها إلى طرابلس، وألجأ لأحد الأقرباء فيها. أبيت فيها، ثم أذهب في اليوم التالي إلى قريتي. كانت جميع النقليات تتأخر في عملها، لأنها تعلم بدوام الجامعة.
كانت الدروس الجامعية قاسية علينا. وكانت المنحة الجامعية، بإنتظار من يفوز ب”درجة حسن” مرتين، في السنة الدراسية. ما كان أحد يصل إلى “درجة جيد”. لم يكن في قاموس الأساتذة إستعمال هذة الدرجة للطلاب، لقسوة الفروض الجامعية. كانت هذة الدرجة محرمة علينا، تشويق وتحفيزا ، لأجل قوة العلم وقوة الدراسة.
كانت المنحة الدراسية، تفي بمصروفات الطالب، طيلة الأشهر الصيفية. ولهذا كان الطلاب يجتهدون كثيرا، حتى يكسبوها بعرق جبينهم، لا بالواسطة. وكنت ممن أخذها: أخذت هذة المنحة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، لثلاث سنوات متتالية، بعد السنة الأولى من دخول الجامعة. كانت شهادة “الثقافة العامة”، مدخلا لكل إختصاصات كلية الآداب. غلب عليها التدريس باللغة الأجنبية، التي لا يتقنها، إلا القلة القليلة ممن تسجل فيها، حتى تفتح أمامه، سبل متابعة الدراسة. كانت نسبة النجاح فيها، لا تتجاوز ال16%. كانت نسبة متدنية. وكانت نسبة التسرب الجامعي في هذة السنة الأولى من كلية الآدب، نسبة عالية.
كان الطلاب يتعرفون على مباني كلية الآداب، من خلال متابعة دروسهم، لأربع سنوات. كانت شهادة الإجازة/ الليسانس، التي يحوزن عليها، ذات إعتبار عظيم. تمنح الطالب الجامعي أن يكون مثقفا. عالي الجبين. عالي الثقافة.
كانت كلية الآداب، تمنح شهادة الدبلوم، بعد مناقشة رسالة في سنة واحدة. ثم عدلت منهاجها، في أيامي، فصارت تمنح شهادة الماجستير في سنتين دراسيتين، ورسالة. كانت شهادة الماجستير في الآداب، تعتبر أعلى شهادة تمنحها كلية الآداب. فيضطر الطالب الذي يريد أن يتابع دراسته لنيل شهادة الدكتوراه، أن يتسجل في كلية الآداب، بجامعة القديس يوسف، أو يضطر إلى المغادرة إلى الخارج، لطلب الدكتوراه. كانت شهادة الدكتوراه إمتيازا لها، ولم تكن موجودة في سائر الكليات من الجامعات الخاصة.
عرفت كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الأونيسكو، في عز أيامها. كنا نشهد بين جدرانها، على المناقشات الأكاديمية الحارة والحامية. كنا نتأخر في الأماسي، لمناقشة الموضوعات المطروحة. نحضر لها. نشتغل بها، لأسبوع. لشهر. وربما لفصل. ثم تدار بيننا المناقشات. كان الأستاذ الجامعي، عالما حقا. كان خلوقا حقا. كان يتمتع بصفات فيها من النبالة والشهامة والأكادمية، ما تخاله، أنه من المصطفين للتعليم، من الآلهة.
كنت أحمل دروسي، إلى المدرسة التي أدرس فيها. أشرح القصائد التي شرحت لي. وأعلم القواعد التي تعلمتها. وأخوض في فنون الوصف والتشبيه والإستعارة والكناية والمجاز والتأويل والترميز، وكذلك في أوزان الشعر. وأحكي لهم الحكايات عن الأدباء والشعراء. وأين عاشوا. وأين إرتحلوا وأين ماتوا. كان ذلك ما يجعل التلاميذ ينبهرون بالدروس. فيميزون بيني وبين سائر الزملاء في المدرسة. كانت تلك مكافأتي المباشرة.
كانت جميع الدروس التي تحملها دفاتري من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تصير على دفاترهم أسبوعا بأسبوع. كنت أشعر أني أتمرن على حفظ دروسي أمامهم. فأحفظ الأشعار والآثار والأصول العامة للقواعد، وأنا منهمر في ساعات التدريس، لا أشعر إلا وقد نفد الوقت، وقصر عن المحاضرة.
كانت الهيئة الطلابية، تقوم بنشاطات ثقافية متنوعة. كان أساتذة الآداب، هم رعاة المحاضرات والمهرجانات. وهم رعاة المسابقات الشعرية بين الطلاب. وكانوا يتحضرون لذلك. ويمنحون الفائزين بجوائز مادية قيمة. فكنت أشارك زملائي وأنا، بإندفاع عظيم. نحصد الجوائز ونحضر أنفسنا للمباراة القادمة.
كانت كلية الآداب منارة ثقافية. تستقبل المدرسين الأجانب والعرب فيها، وتمنحهم مكافآت عالية. وكانت تقبل تفرغهم للتدريس فيها، إذا ما كانت رتبهم عالية. فكان يتفرغ فيها الأساتذة الفرنسيون والأساتذة السوريون والعراقيون والمصريون. وكذلك الأساتذة الإنكليز. كانت كلية الآداب، منفتحة على كل الثقافات. وكنا نصادق هؤلاء الأساتذة ونجالسهم، ونزورهم. ونعقد معهم جلسات أكاديمية.
كانت كلية الآداب حتى العام1975، كلية موحدة. لا فروع لها في المناطق. ولا فروع ولا شعب، هنا أو هناك في بيروت. غير أن الحرب طغت على لبنان فمزقتها.
كانت كلية الآداب تستقبل الطلاب العرب والأجانب. كانت شهادة الدبلوم، أعلى شهادة فيها. ولطالما حضرنا المناقشات التي ندعى إليها، حتى نتمرن على مناقشات الرسائل. ليصير واحدنا، إبن بجدتها.
حضرت مناقشة زميلي السوري. وحضرت مناقشة زميلي الأردني. وزميلي الفلسطيني. كان الطلاب العرب، من كبار السن. وكان تسجيلهم في كلية الآداب، علامة من علامات الوثوق بالشهادة الجامعية اللبنانية. مما كان يعزز كلية الآداب، ويجعلها ذات مصداقية.
أذكر مناقشات الشيخ صبحي الصالح. ومناقشات العميد أحمد مكي. والعميدة زاهية قدورة. والدكتور أنطون غطاس كرم، رئيس دائرة اللغة العربية في الجامعة الأميركية.
أذكر كيف وصل من عمان ذات يوم، أحد الفتيان، يطلب شهادة الدبلوم لأبيه، الذي مضى زهاء أسبوعين على مناقشتها. فإمتنعت سكرتيريا عمادة كلية الآداب على تسليمها. رأيته يبكي جانبا. سألته عن حاجته. ورأيت في وجهه وفي عينيه، أزمته: كان يحمل في جيب قميصه بيضة مسلوقة، غداء له. كان إسمه هشام عبد الحفيظ. طرقت باب العميدة زاهية قدورة. رويت لها ما شاهدت. تأثرت كثيرا. وسهلت الأمور متعاطفة معه. وحملته شهادة الدبلوم لأبيه.
كانت كلية الأداب، دار علم وثقافة. كانت دارا أكاديمية. كانت حقا دارا للإنسانية. أوليست هي كلية الآداب والعلوم الإنسانية. فمن الصعب أن تجد إسما على مسمى، إلا وتتذكر أنك نهلت العلم، من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، في محلة الأونيسكو. تلك الكلية التي علمت بفرعها في طرابلس زهاء أربعين عاما، غير أني درست في مبانيها في الأونيسكو سنة واحدة. عندما كنت في السنة السابعة. أحييت فيها ذاكرتي. فجميل أن تعود بعد ثلث قرن، لتدرس، حيث كنت تدرس. وفي القاعة نفسها.
د. قصيّ الحسين
عبد الله الظاهر ناجي طاهر حجه