سلسلة “أماكن عامة”
صحبة الساحل
ما عرفت معنى لصحبة الساحل، إلا حين كنت أصل من قريتي إلى بلدة العبدة العكارية، فيطل علي شاطئها الجميل ومرفأ الصيادين. ويستأذن أبي سائق الحافلة، فينزل إلى البحر يغرف زجاجة من مائه النقي. قال له طبيب العيون، إن ماء البحر مفيد جدا، لعيني قصي. ثم صارت صحبة الساحل ، جزءا من سجلي. حين كنت أذهب للدراسة في طرابلس وفي بيروت. وحين صرت أذهب للتدريس في الجنوب. أخرج بالحافلة، من طرابلس إلى الناقورة، مرورا بصور. كانت الرحلة هذة على مرحلتين: من طرابلس إلى بيروت. ومن بيروت إلى صور. ثم إلى رأس الناقورة، حين كنت أدمن على رأيتها. كنت أقترف مثل هذة “الخطيئة”، حين كنت أغرق في حبها، وأشرب قلبي من كأسها. كانت رحلتي هذة إسبوعية. وكان ذلك في العام الدراسي: 1969- 1970.
كنت في أول تجربة تعليمية لي. آتي من بلدتي مشتى حسن، إلى طرابلس. ومن هناك أستقل الحافلة، من كراج الأحدب، بإزاء الساعة الحميدية، والسراي العثمانية، ومن تحت قصر نوفل، لأنطلق إلى بيروت. ثم أعود فأصعد إلى الحافلة الثانية من كراج صور، في الخان العثماني، تحت الباشورة والخندق الغميق، لننطلق إلى صور. هناك أنزل من الحافلة، قبالة مدخلها البحري العريض، وأستقل سيارة، إلى بلدة طير فلسيه، حيث المدرسة الرسمية، وحيث أولى الدروس، التي كنت أدرسها.
أجمل ما في رحلتي الأسبوعية هذة، هو صحبة البر، وصحبة البحر. صحبة الطريق، بين القرى والحقول. وصحبة الطريق الساحلي. صحبة الساحل من طرابلس، إلى الناقورة، مرورا بصور.
كان الساحل أخاذا، حين تنطلق بنا الحافلة من مدخل طرابلس الجنوبي، من البحصاص، حيث نبع أبو حلقة الذي يروي عطش البحر، وحيث يروي عطش طرابلس، بالمياه الآتية من وادي هاب. ومن وادي قنوبين. ومن جبال الأرز. بل من مغارة قاديشا في قدس أقداس بلدة بشري. ثم تغذ الحافلة بنا السير، إلى بلدة القلمون. فتفوح علينا أزاهير الليمون، بعطرها. فنتمهل أمام حوانيتها، نتذود بشراب الزهر والورد. نتذود بحلواياتها. من زهر بو صفير، ومن حلوى لبه وقشوره المجففة والمعطرة، والمعشقة بالعسل. كانت معشقة بوصفير، ألذ أنواع الحلوى التي تقدمها بلدة القلمون لزائرها. كانت تلال القلمون فوقها، أجمل التلال على طول الساحل، من طرابلس ألى صور. نجتازها، ونحن نمعن النظر إليها. كنا نعدها تلة تلة، فلا نحسن العد. كانت لها قوة الجاذبية، التي تشد الأنظار إليها، وقد فغرت فيها المغر أفواهها. وبانت عن أسنانها وأضراسها البيضاء، التي، تمتد إلى البحر، ملاحات ملاحات. كانت مغر الملح وكهوفه وملاحاته، بألوان مراوحها الأخاذة، تضفي على ساحل القلمون ظلال ذلك المنظر الخلاب. فما بالكم، إذا ما رأيتم سكة القطار. ومحطته المرتجلة. ومحطته الراجلة. ترى الطلاب، بقراطيس، ودفاتر وكتب وأوراق، يروحون ويجيئون على سكة الحديد، حالما يغادر القطار الموقف. أو تراهم يفسحون المجال لقدومه، من طرابلس أو بيروت. ترى شاطئ البحر ، تتراقص فيه أمواهه، تتراقص فيه مراكب الصيد، والسفن الشراعية. ترى المتزلجين على صفحة للبحر قبالة القلمون وخليج البحصاص، بل خليج طرابلس، ينشدون إلى الحسكات الرياضية، وكأنهم في مزالج الأولمب.
تغادر القلمون، فيستقبلك رأس أنفة. تستقبلك بيادر الملح. يستقبلك الذهب الأبيض. يستقبلك دير الناطور. تستقبلك الحوانيت والمغر والأرجيل. يستقبلك المرفأ الفينيقي، المعزول، خلف الصخر، الذي قد إلى نصفين، فلا يعلوه الموج. لأنه الكاسر الطبيعي للموج.
بين أنفة وشكا، مرج وحقول وكروم، ومصانع. وقوافل عمال، يأتون في الصباح ويغادرون في المساء. وكروم التين والعنب. وكروم الزيتون. أما مسابح بلدة الهري، والسانسول الذي يغذ في البحر، فهو شاهد على تحولات العصر. يواجهك من فوق، وجه الحجر. آلهة البحر ودير النورية، وبلدة قلحات، المطلة على طول الساحل الفينيقي. على قبرص وأنطاكية وطرطوس.
تعبر نفق شكا إلى البترون. تتلألأ، أمامك بلدة كبا، بقرميدها الأحمر، وكرومها الخضراء. تمتد حتى جلول سلعاتا، وكروم أشجار الخروب. ثم ها هي أمام ناظريك، تتلألأ بلدة البترون، بسوقها الفينيقي. بمسابحها. بمرفئها التاريخي.
وها هي بلدة كفرعبيدا تطل عليك بمنتجعاتها العظيمة. وبكروم التين والزيتون والكرمة. تستظلها. تستظل شجيرات النخيل. تستلقي، إلى صخور ساحلها. تتعشقك الصخور، من شدة شمسها، قبل أن يوافيها عشقك لها، لأن نهر المدفون، ينام على مدخلها الجنوبي. لأن نهر المدفون إفتادها، وكان أول شهيد العشق. هلا سمعتم، عن نهر مات دون عشقه للساحل. للبحر.
وها هي بلدة عمشيت الفينيقية التاريخية، تغازلك من بعيدا، عبر شاطئها الأخاذ وسانسولها ومرفئها وأسواقها. تناديك أعمدة الإرسال، فتتعرف، على همزة الوصل بين بيروت والشمال. بين بيروت وسائر المدن الفينيقية القديمة لجهة الشمال، حتى عمريت وأرواد.
هكذا أنت فجأة أمام معبد الشمس في جبيل: القلعة والميناء المسحور والسوق التاريخية، والجامع الأموي. ينجلي بصرك، وأنت تصعده في تلالها، وفي كروم الموز. وفي كروب العنب والتين والزيتون. وفي شباك الصيادين، الممتلئة بالغلال الوفيرة. بأفخر أنواع السمك، الذي يعرفه شاطئ المتوسط الشرقي. من السلطان إبراهيم والجربيدي واللقس والتونة والسردين والأخطبوط. ثم ها هي تودعك بلدة نهر إبراهيم. وتسلمك إلى الملكين قدموس وعشتروت. تحيي معهما رحلة الجبلين الأخوين: كسروان وجبيل، وبينهما نهر إبراهيم، الذي لا يزال يسيل بالدماء حتى اليوم، لتزهر منه شقائق النعمان. يا لها من مدينة: ذبيحة الهياكل، ذبيحة الكهنة، ذبيحة التاريخ الذي لا يرحم، حتى قرطبا، وحتى طريق الحرير إلى دمشق، الذي أغلق، في وجه الناس. في وجه الخز والبز في وجه تجار الحرير. وفي وجه الخنزير البري.
ثم تكمل رحلتك الساحلية، حتى تصل إلى المعاملتين، حيث تتعاقد التلال، لتفصل بينهما. فلا شيء أعظم من التاريخ، حين يقول درسه، في الجغرافيا ومعناها. تتقدم بك الحافلة قليلا، فإذا أنت أمام خليج جونية الساحر، وشاطئ أدما وغزير. جونية: أول مدينة عربية، على الساحل اللبناني. بناها الأمويون، منتجعا لهم. كانوا يعودون إلى حجرها، حين يستريحون من الحرب، ويذهبون إلى المنتجع، الذي، لا يرون مثيلا له، من الرملة إلى تخوم اللاذقية والرأس البسيط وأنطاكية ، وعيون البيزنطيين.
ثم ها هي مدينة بيروت، تطل عليك. تقف أمام مرفئها التاريخي. تتذكر حروب العثمانيين والروس والإيطاليين والفرنسيين والإنكليز. تتذكر إجتماع أساطيل العالم كلها، على هذا المرفأ الصغير، الذي لا يكاد يتسع لأكثر من قاربين وأميرال واحد، ومؤامرة واحدة. ولكنه يتسع لحروب كثيرة. تمتد لسنين. حروب كثيرة النسل. فنسلها لا ينتهي، لأنه نسل من يزحف إليها من ينابيع العالم كلها. آه ما أعظم بيروت، حين تقبل رأسها. حين تلوح لك صخورها. حين يذهب عينيك رملها. آه ما أجمل بيروت، حين تنتعش في ربيعها. في خريفها. في صيفها، وفي شتائها. حين تنعشك منتجعاتها. حين تخرج في إثرك، أسواقها. حين تخرج في إثرك خاناتها. حين تنغلق عليك قلعتها، بين المنارة وباب السراي، والحصن المجيد.
وها هي الحافلة، تخرج بك إلى مثلث خلدة. تودعك سهل الشويفات: بساتين الموز. وينابيع الماء. وهضبات السنديان. وتلال الصنوبر. والقرى، التي تحرس صحراءها. وتلال عرمون وتلال دوحة الحص، ودوحة عرمون. تغذ السير بإتجاه جسر الحب التاريخي في الدامور. يجتمع إلى صدرها ملتقى النهرين، يجري من أعالي الشوف. ما أعظم ذلك الوادي المهيب. ما أعظم ذلك الوادي الجميل، الذي يفصل بين بلاد الشوف كلها، وبلاد الغرب وعاليه. ما أجمل بلدة رمحالا. ما أجمل قبرشمون. ما أجمل جسر القاضي. ما أجمل البساتين والكروم التي تنحدر من الأعالي إلى الساحل بكل خيراتها. تجعلها على بسطات الطريق لزوارها. تقدمها عربون محبة، ومذاق زيارة لا تنتسى. وتفتق لك عراها.
أما ساحل الإقليم، فحدث عنه ولا حرج. من وادي الزيني، حتى صيدا. ترى القرى المعلقة، تنزل من أعاليها بكل تواضع لإستقبالك: البرجين وشحيم والرميلة، قبل أن تلقي بأثقالك، في مدينة صيدون. بل بين بساتين الإكي دنيا في صيدا.
تستقبلك عاصمة الجنوب. تستقبلك قلعتها. تستقبلك أسواقها. يستقبلك خان الإفرنج. يستقبلك مرفأها. تخرج منها، بإتجاه مدينة صور، فتعبر الصرفند والزهراني وتعبر الليطاني. تتمدد أمام ناظريك، جنائن الموز. جنائن البرتقال. تتمدد أمام ناظريك، كثبان الرمال، من اللد والرملة، والبابلية، حتى نهر القاسمية العظيم.
تتقطع أنفاس الحافلة، وهي تشهق للجمال، حين تصل إلى صور وتغذ إلى الناقورة. ما أعظم قلعة صور. ما أعظم نواويسها. ما أعظم معابدها الفينيقية، ما أعظم هياكلها، التي كانت قوسا على ظهر سفينة. ما أعظم نفق الناقورة، حين يطل عليك، وترى سكة الحديد التي إنقطعت، عن متابعة رحلتها. متعة رؤية بوابتيه. متعة، للناظرين وللخاطر المكسور، أن ترى سكة الحديد، تعود بك للذاكرة. تحيي لك الذاكرة!
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين