سردية المعنى : التحول والحلول.
نص مداخلة د. منير مهنا ( مدير منتدى شهرياد / راشيا ) خلال ندوة ” اون لاين ” ناقشت كتاب ” أرض الزئبق – سردية المعنى ” للكاتب نعيم تلحوق بتاريخ 12/8/2023
في نصوص أرض الزئبق ، يمتلك نعيم تلحوق السارد ، لغة إستثنائية لطالما كانت حاضرة في دوواينه الشعرية ، فهو وإن غادر حقل الشعر ولكنّه لم يغادر لغته ، أزاحها فقط من حقل الى حقل ، وسار بها وبنا من أرض الأحلام الى أرض الزئبق ، هي نفسها اللغة التي تكافيء قارئها بحساسية إنتباه لمعاني الثنائيات والمتضادات والمترادفات ، يخرج بها في سرديته عن مألوف الإختلاف والمقاربة الشعرية الى حقل دلالي جديد يحاول أن يشكّله على إيقاع حدثه وأحداثه وتجاربه .
وفي لغة السردية التلحوقية نتذوق ونحن نقرأ نصوصه معنى الإنغماس الذاتي في المُتع غير النهائية للمعنى . معنىً هو نفسه يفيض عن المعنى .
لست بناقد أدبي ، ولا أدعّي المامي بالنقد ومنهجه ،دون أن يمنعني ذلك عن ملامسة عتبة التذوق المعرفي كمتلقٍ للنص ، والكتابة عن تجربتي معه وحوله ، لذا سأوجه قرأتي ومداخلتي في إتجاهين متوازيين :
الأول : الأدب بوصفه فعل إنتاج وإبداع للرؤية ، واصفاً للرؤية المحمولة في ” سردية المعنى ”
الثانية : علاقة هذا الإنتاج بالتحولات المجتمعية التي يشهدها عصرنا المعولم والسيّال .
اولاً : الرؤية المحمولة في ” سردية المعنى ” من منظور إبداعي :
– تتقاطب الرؤية الناظمة لسردية المعنى على ثنائية: الأيروس ( غريزة الحياة ) والسانتوس ( غريزة الموت ) ،
وما بينهما يقف نعيم تلحوق محاولاً أن يفكّ اللغز الإنساني لمعنى الحياة ، التي طالما أخفاها الإنسان عبر تاريخه في طيّات تاريخه الثقافي عبر أشكال مختلفة من الطقوس والتعاويذ ، وألبسها المفاهيم التي تخفف من وطأة وقع الحقيقة على الكائن البشري الهشّ في مجرى التحّول من طاقة الأيروس وصراعها ضد طاقة السانتوس . من هذه الطقوس مثلاً أفعال البطولة والتضحية والفداء في الميثولوجيات ، طقوس الحب ومعانيه في الشعر والفن والموسيقى ، طقوس الإحتفالات ونشوة النصر أو الدعوة للإنتصار على الألم . والأمثلة كثيرة .
لطالما طالب اللغز الإنساني بحقّه بالخروج من عباءة التعويذات التي استودعته الجماعة فيها ، فمحته أحياناً وتحاذقت على إخفائه أحياناً أخرى ، وتجاهلته كي لا تتعامل معه ،… أمّا في ” سردية المعنى” نجد محاولة للكشف والبحث والتأصيل وإزاحات جريئة للتعاويذ عن جسد المعنى ولغته وشغفه وسقوطه . يقول تلحوق :
” نحن عالقون في منفى ذواتنا ، الكلّ يتآمر على الكل ، بما فيها نحن …العالم يتآمر على نفسه ، ولا ندري حتى اللحظة ، جنس واحد لم يتفق على تحقيق بشريته ، فكيف به يدرك معناه؟! ” ( تلحوق ،عبث اللغة ، 113-114 )
ويضيف :” الحياة بحاجة الى خطأة ، ليستقيم صوابها ..وليست بحاجة الى الكثير من الصواب ليستقيم اعوجاجها ” .
( تلحوق ،شغف اللغة ، 105 )
في تعريفها الملفت للكتابة تقول خالدة سعيد ، ” الكتابة هي لعب الإنسان مع الموت وليس موتاً ، فالكتابة هي اختراع ضد الزمان والمكان ، ردٌّ على محدودية الإنسان ، إنها إستحضار ، إستبدال لحاضر ، التحرك بعكس حركة الزمن “.
كيف تواجه الموت / المحو ،أليست تلك هي المعضلة ؟ .
– ” ….لقد تأكد لي قطعاً بأن الله هو لغة المحو لا إملاء فيها ؟؟؟ الله هو المحو ، والمحو هو المعنى …”
ثم يضيف :
-” تعالي يا ” لؤى” نجمع كل تعبنا لنغادر هذه الأرض ، ونهرب من كل هذا العبث اللغوي المنحل ، لقد حيّرني ربي بما فعل … يبد أننا خلقنا كي لا نفهم شيئاً أبدًا … تعالي نجمع أحلامنا وأجسادنا ونغيب … إنها أرض الزئبق يا حبيبتي ..”
( تلحوق ،عبث اللغة ، 125 ).
في كتاب ” الطريق الى اللغة ” يقول مارتن هايدغر : ” العقل هو اللغة ، واللغة تتكلم ، العقل يكمن في اللغة ” .
اللغة بيت الوجود ، وفيها يتجلى المعنى ، إن وجودنا رهن أي لغة نتكلم واي معنى نحمّله في بواطن هذه اللغة لنصنع وجودنا على أساسها . لكن نعيم تلحوق لا يؤمن سوى بالمقولة الهيراقليطيسية الشهرة : ” كل شيء ينساب ” فتراه يقول : ” المعنى هو عصيان اللحظة دائماً وأبداً ، أما اللغة فهي إجترار المرئي من الأوقات … “.
( تلحوق ،سقوط المعنى ، 144 ).
غلاف كتاب أرض الزئبق الصلدر عن دار فواصل في بيروت للكاتب نعيم تلحوق
مواجهة الأيروس والسانتوس في أرض الزئبق :
هنا نجد الحب يتكاثر في الإنتماء الى ” الأنثى ” ، وتتعدّد الحبيبات والعاشقات المستولدات لغة الحياة من قلب لغة الموت ، ويلعب نعيم تلحوق لعبة الخالق والمخلوق ، نرى اسماء نساء وغوايات أيروسية ،
– لؤى ، لمار ، ميرنا ، حنين ، نورا ، رغد ، مريم ، ورد … وغيرهن من نساء ” أرض الزئبق” مدعوات الى وليمة الغواية التلحوقية ليقلن له الكلمات التي لا ينطقها العشاق ” ساعدني على الحياة ” .
ها رغد تبوح لصاحب أرض الزئبق ، فتقول : ” عَرَفتَ نساء كثيرات … أعلم ذلك!! لكنَّ الّتي عَرَفتكَ تخشى أن تراها … يا ملح الكتابة ، خبَّئني ، فقد تعبت ، أخاف أن يتشوّه وجه الماء ، يا أنا كم أشبهك ، حاولت ألا أخشى ظهورك بي .. حاولت أن أمسك الوقت من أضلاعه … وأهمس : حان البدء بالأشياء لأصل إليكَ …وابتعد عن ترّهات الثقافة …”. ( تلحوق ،جسد المعنى ، 128-129 ).
والمعنى لا يكتفي بحالة ، يريد أن يكون هو ” الحالة ” ، المعادلة البشرية أصعب من أن تحقق إكتفاءها وقد تكونت على قدرية العُنَّة : “العجزٌ الذي يصيبُ الرجلَ فلا يقدِر على الجِماع” ، العُّنة/ اللعنة التي تتلاشى فيها القدرة على خلق المعنى ، فتكون المعاناة . بين عُنّة ، ومعنى ، ومعاناة يقف الإنسان تائها في صراع الأيروس للحفاظ على وجوده مع السانتوس الزاحف اليه بقوة الإمحاء ، وما بينهما قدر لا ينفكُّ عن تكرار معناه .
السردية وإضافاتها الأدبية :
” لكل كلام وجه وتأويل ، ومن التمس عيباً وجده ” ( أبن رشيق ) .
من الجانب الأدبي / الإبداعي ، نرى نعيم تلحوق في نصوص ” سردية المعنى ” يقدم لنا بُعداً جديدا لمفهوم الرؤية السردية ” كمفهوم نقدي يتناول الخطاب السردي أو يتناول الطريقة التي اتبعها الكاتب في سرد أحداث قصتِهِ أو روايتِهِ، فالرؤية السردية تُعنى بالمكونات الخاصّة بالنص المسرود من حيث الشخصيات والأحداث والحبكة الأساسية في النَّصّ وما شابه ذلك،…..
وهي تتوزع على ثلاثة مستويات : الرؤية من الخلف ، الرؤية المصاحبة أو الملازمة ، الرؤية من الخارج ” واستطيع ان أضيف اليها مستوى جديد هو” الرؤية من فوق ” ( أي قدرة السارد على معرفة الشخوص والمواقف والأحداث وكشفها وتأويلها بالمغازي الدّالة عليها ، وليس بظاهرالمعاني ).
ومثالها كثير اكتفي منه بذكر ما كتبه نعيم تلحوق ” العالم يدفع بك الى الأمام لينزع عنك صفة الألوهة ، ويحتّم عليك مشاهدة الأشياء من فوق …. “( تلحوق ،انحناء المعنى ، 68 ).
وكذلك في الفصل الأخير من سرديته ” سكون المعنى ” ص 157 : يقول :
– ” لا أعرف أين كان الشعراء ، يا ” منار” كانوا يتغزلون بأنفسهم ، ونسوا كيف يتمّردون ، التمّرد شيء آخر غير الثورة … كانوا مزروعين خلف تعاليمهم المختلفة ، وحين جاءت الثورة جرفتهم ، وقرروا أن يدخلوا كنهها ، فخربوا البلاد والعباد ، وقسّموا المجتمع الى فئات ، وصار همّهم كيف يحصّنون مواقعهم على حساب أفكارهم … ”
مؤلف الكتاب نعيم تلحوق
ثانياً : قراءة التحولات المجتمعية في نصوص ” سردية المعنى “.
في سردية المعنى نقرأ نتاجاً فكرياً يعمل على إعادة ” تشكيل الذات ” في عصر يعمل على ” محو الذات ” .
في زمن يتّسم بشكل متزايد بتفكّك أنظمة المعتقدات وأنظمة الإنتماءات …. حيث يعمل الكثير من المنتجين الجدد للأفكار والتقانة على التخلص من كل ما يعيق تأكيدهم على القيم الفردية والنفعية ، متجهين بفكرهم الى عصر ” إستبداد الفرد ” . وهو ما أشار اليه كتاب “الأزمنة السائلة” أو “العيش في زمن اللايقين”. لعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (1925-2017)
والأزمنة السائلة في تفسير “باومان” هي حياتنا المعاصرة التي تعاني من تحول في هياكل المجتمعات من الصلابة إلى السيولة -كما هو معتاد- وهي التحولات التي يرى “باومان” بدايتها من تفكك الأبنية المجتمعية والمؤسسات التي تضمن العادات المجتمعية وأنماط السلوك، والتي لم تعد قادرة على الحفاظ على عادات المجتمع وسلوكه لفترات طويلة كما السابق، وهو ما أدى إلى “ارتفاع رصيد المخاوف نتيجة غياب التوقع وتآكل العرف ومنظومة الأخلاق الاجتماعية”.
ثم ينتقل “باومان” إلى الانفصال الحادث بين السلطة (ما نستطيع فعله) والسياسة (ما ينبغي أن نفعله) بما يفصل أهداف أفعالنا عن أفعالنا ذاتها وهو النتاج الفعلي للاستهلاك بلا غرض نهائي، .
أمام هذه الإشكالية يأتي نتاج نعيم تلحوق الفكري ليتموضع ويستكمل مسيرته في الردّ على الإنتقال من الزمن الذي تعلو فيه القيمة على المنفعة الى الزمن الذي تنحط فيه القيمة وتعلو المنفعة . الزمن الذي تتشيْء فيه القيم ، وتتقيّم الأشياء .
يرى نعيم تلحوق أنه في مثل هذا العالم المتشيّء يُعاد تشكيل المعنى خارج أي معنى . وينقلب اللامعنى على المعنى ، يتفكك الزمن المرتبط بالحدث والذاكرة الى زمن يمحو فيه التسارع في صنع الحدث وتدفقه قيمة الحدث نفسه ، تموت ذاكرة الزمن ويولد زمن النسيان ، ويدخل الكائن الإنساني هذا التيه بلا علامات تربط ماضيه بحاضره وبغائية وجوده ومستقبله ، بلا يقين الى أين يتجه سهمه ، والى اين تندفع خطاه . فيسقط في الخوف من عالم لا أمان فيه ولا ثبات .
بالتأكيد ، إن إستبعاد “الأنا الطبيعية” لن يلغي وجودها ،والمشكلة في إيجاد السبل للتعاطي معها وتحويلها من “أنا إستحواذية” لتصبح “أنا إجتماعية” . وهذا ما يحاول نعيم تلحوق إظهاره وتبيانه .
صحيح أن السردية التلحوقية تقدم لنا مدونة لإنشغالات الذات على إمتداد نصوصها ، لكنّ ” الذاتي ” عنده ليست ” ذاتية متفردنة ” بقدر ما هي ” ذات مجمعنة ” تجد مداها ومأواها في الـ ” نحن ” ، والـ ” نحن ” المعنية بها الذات التلحوقية ليست سوى جماعة مثقفي النهضة والحداثة ، اولئلك الفئة من النهضويين المخيبة أمالهم ويعانون من قسوة تجاربهم وفشل رهاناتهم ، ولكنهم رغم ذلك ما يزالون يملكون إيماناً بالمعنى لم يسقطه الواقع الراهن ، ويراهنون على مستقبل تعيد فيه الذات تشكيل وعيها على قواعد جديدة لا تقبل الخضوع لسلطة خرجت عن واقعيتها وأنقلبت على وعيها بنفسها .
وفي هذا السياق يؤكد نعيم جدلية الإنتماء والولاء عند المثقف الثابت على مبادئه، ” لم أشعر أن وطناً يولد في داخلي الا حين قرأت أنطون سعاده ، مخلوق فضائي جاء من أقصى الجهات في الأرض ، ليتيمّم بماء الخذلان وتراب اللغة وهواء السّم الزعاف ، ونار متقدة لم يزل إشتعالها مستعراً حتى اللحظة . …
فاشترى عذاباته بالدم وراح ينثر أفكاره ومراميه في حقول لم تصل لمكنون العالم الثالث بعد ، لتحظى بإنسانيتها …. كان إنسان المابعد في استحضار رعشة الخلق ، كي يعيد صياغة عالمه وأحلامه “
( تلحوق ،ثبات المعنى ، 87 ).
– المثقف/ النموذج اسمه خليل حاوي ، النموذج عن النحن … يقول نعيم تلحوق على لسان مريم : ” أخبرني عن مخلوق فضائي كسر القاعدة ، مثقف شجاع عرف متى يخسر وكيف ؟ اسمه خليل حاوي … اخبرني عن آخر يا طائر الفينيق ؟! – ( تلحوق ،سكون المعنى ، 156 ).
الكتابة عن هذه المتاهة في الدوران بلا هدفية أو اتجاه في الحياة ، هي المغزى الأعمق للفضاء الذي يريدنا نعيم تلحوق أن نعيه في ” ارض الزئبق ” ، متاهة لا يستقر فيها معنى أي شيء على معناه حتى يغادره الى معنى آخر، متاهة الأفعال والإنفعالات المنحّلة والمتحلّلة عن روابطها وثوابتها.
في أرض الزئبق ، نجد شهادة على أهمية أن تعود الدائرة الى نقطة البيكار ، وأن نتمكن من إلقاء المنطق على الروح ، وأن ” نتدرب على الموت ” لكي نستعيد قدرتنا على الفلسفة كما يقول أفلاطون .
والخلاصة : المبدع صنو المعنى ، وصيرورته في أن يعي صنوه . أمام هذا الفيض من الشذرات الصوفية التي بثّها نعيم تلحوق في أرض الزئبق ، نتلاقى مع “نيتشه ” القائل :” لا يجوز أن نخدع أنفسنا مثلما لا يجوز أن نلتقي بالحقيقة بصورة عابرة .”
اختم قولي مستعيناً بكلمة / موقف، هي أخر كلمة نطق بها الامبراطور ثيودوسيوس في حياته وهوعلى فراش الموت ” Delixi” ، نعم ” أحببت ” .
د. منير مهنا
مقال مهم ومشغول بعناية وحب يزيد ارض الزئبق أبعادا و مساحات ويستنطق كل فكرة وكلمة وردت بها فتسيل الحكايا غنية رشيقة..كل الحب دكتور منير والمعلم نعيم تلحوق