مقاله الاثنين في ميزان الزمان الأدبي :
الشماتة
بقلم: د. بسّام بلاّن
-× -×-×-×-
حادثتان مرتا بي لن أنساهما، وحفرتا في نفسي كثيراً.
عام 1982 استلم أحد أقربائي السيارة التي سجّل عليها عند الحكومة.. وذهب الى ميناء طرطوس السوري واستلمها وعاد بها وقلبه يقفز أمامه 100 كيلو متر فرحاً. وصل دمشق حيث كان يسكن نحو الساعة الثامنة مساء.. أوقف السيارة أمام باب البيت.. خرجت الزوجة والأولاد لمعاينة الزائر الجديد، بينما العالم يضيق بفرحتهم. لفّوا حول السيارة، فتحوا الابواب عاينوها من الخارج والداخل ورؤوسهم شامخة لا تطالها حتى الصقور. أهل الحارة راحوا يتوافدون اليه مباركين ويعاينوا السيارة وكل ذي صاحب خبرة يعطيه رأياً.
في اليوم الثاني، ومنذ الصباح، قرر شدّ الرحال الى الضيعة ليتفرج أهله وأقاربه على سيارته الجديدة وليؤكد لهم أنه انتقل بكل جدارة من نادي النقل الجماعي الى نادي مالكي السيارات الخاصة. مرّ على محل الحلويات والكعك وعبأ صندوق السيارة بكل ما لذّ وطاب.. وانطلق. مرّ أولاً الى مدينة السويداء على بيوت إخوته وأخواته واحداً واحداً.. وفي المساء قرر إكمال طريقه الى الضيعة لتتبارك السيارة ببسملات ودعوات أبويه الثمانينين، وكنتُ برفقته. وصل هناك نحو الساعة التاسعة مساء ولأن بيت أهله يقع في طريق ضيّق بين بيوت الحجر القديمة، فقد أخطأ تقدير المسافة لترتطم مقدمة السيارة بأحد الجدران البازلتية.. وصار الذي صار. أوقفها بسرعة وراح يعاين الأضرار بحسرة. فقد كُسر الضوء الأمامي الأيسر وتضرر “الرفراف”. رأيته حينها وقد ضاقت به الدنيا وكاد ينفجر.. اسوّد وجهه وزاغت عيناه.. اقتربت منه وقلت له بسيطة الحمدلله الأضرار بسيطة. فرد عليّ قائلا: لا يزعجني ما أصاب السيارة، ولكن أنا مقهور جداً من شماتة الناس بي. “لازم نصلّح السيارة قبل ما حدا يشوفها هيك”.
لم يكمل الى بيت أهله، بل قفل عائداً الى المدينة وراح بمساعدة كل مَنْ هو متأكد من أنه لن يشمت به، البحث عن ورشة لاصلاح السيارة والانتهاء منها قبل طلوع الصبح.. وبأي ثمن كان.
المهم وجد ضالّته، وتم اصلاح السيارة على عجل، دفع أكثر من ثلاثة أضعاف المبلغ الذي من المفروض أن يدفعه، ومع ذلك كان فرحاً حينها؛ فكل شيء أسهل من “شماتة” الناس.
………..
قبل أكثر من 15 سنة كنت في زيارة الى سورية، وحصل مع شاب قريب لي نفس السيناريو تقريباً.. فبينما كان يرجع بسيارته خلفاً ارتطمت بحائط تأذى بسببها غطاء الصندوق الخلفي. فنزل منها وراح ينظر يميناً ويساراً ليرى إن كان أحد رأى الحادث غيري، فلم يجد. انفرجت أساريره قليلاً وقال لي: “لازم نخبيها بالكراج ونغطيها وما حدا يشوفها”. سألته: لماذا؟.. الضربة بسيطة. قال: لا أريد لأحد أن يشمت بي.
………….
لاحقاً.. في أول مظاهرة بالعاصمة السورية دمشق في بداية العام 2011 في سوق الحريقة احتجاجاً على سلوك غير لائق لشرطيّ مرور بحق أحد مالكي السيارات، وتعنيفه والتعامل معه بفوقية وغلظة، حضر الى مكان المظاهرة ضباط من الأمن الداخلي من رتب رفيعة، وحضر وزير الداخلية للتحاور مع المتظاهرين وإنهاء الموقف، وكانت على ألسنة هؤلاء المسؤولين عبارة واحدة: “عيب يا شباب لا تفرجّوا حدا علينا ولا تشمتوا الناس فينا…”.. وهو ما يشير بوضوح إلى أن “الشماتة” جزء أصيل في الشعور الجمعي السوري ويخشون منه ويخفون كل ما من شأنه أن يجعل منهم مادة للشماتة عند الآخرين.. وقد ينسحب هذا الشيء على أبناء بلاد الشام التاريخية برمتها.
……
لذلك أكاد أجزم أن السوريين هم نوع من الناس قادر على ابتلاع أيِّ ألم أو مَصَاب أو حادثة لوحده، شريطة أن تظل قيد الكتمان ولا يعرف بها أحد كي لا تتحول الى مادة للشماتة بهم عند الآخرين.
وأكاد أجزم أيضاً أن أحداً لا يمكنه أن يتصور اليوم مدى ألم الانسان السوري وهو يقف عاجزاً مقهوراً أمام العالم برمته وهو يرى مصائبه بكل أبعادها، وكم كان يتمنى لو أن ما أصابه من فقر وتشرد ونزوح ولجوء لم يره ولم يعرف به أحد، خاصة أن في وجدانه يقين ثابت بأن آلام ومصائب الكرام هي مادة دسمة للشماتة في مجالس اللئام.
الكاتب د. بسّام بلّان