السبت الثقافي مع الاعلامية دلال قنديل:
قراءة لكتاب ” حياتي مغ بيكاسو ”
-×-×-×-
عالمنا المأزوم بلحظاته العصيبة يعيد إلينا عبر بعض الوثائق تاريخاً تحدى فيه الفن الواقع، بقي متستراً لا بل أسير الملاحقات والتهديدات الى أن إنجلى الضوء وتمكن فنانون ومبدعون من الظهور الى النور وبقيت شعلتهم مضاءة منذ قرون.
إستعادة سيرة بابلو بيكاسو على لسان طليقته، في كتاب سيرة يأخذنا بتفاصيله اليومية الى مرحلة النازية التي لوثت حقبة من تاريخ البشرية بالديكتاتوية والاضطهاد لكل من يخالفها وسجنت وقتلت مفكرين وداهمت فنانين وعزلتهم لأنهم لم يخضعوا لها.
غلاف كتاب ” حياتي مع بيكاسو ”
من الاسرار التي يكشفها الكتاب تعاطف بابلو مع الثوار في سياق ما ترويه الكاتبة من تفاصيل سنوات عشر قضتها معه تحت سقف واحد ، طبعت مراحل هامة من تطورها كفنانة،كما من مسيرة بيكاسو العامرة بالمراحل وتقلبات الحرفة الفنية الى أن يصبح الاسلوب إحترافاً، وفق ما يظهر السرد السلس.
“من الاشخاص الذين يترددون كثيراً في ذلك الوقت، أندريه دوبوا والذي أصبح فيما بعد مدير شرطة باريس، وكان يعمل في وزارة الداخلية وبما أن الألمان كانوا يبحثون عن طرق لمضايقة بيكاسو ، بل ضايقوه بالفعل أكثر مما ينبغي. فقد كان (اندريه دوبوا) يأتي كل يوم تقريباً ليتأكد من أن الأمور تسير على مايرام. وكان جان بول سارتر يتردد كثيراً وكذلك سيمون دو بوفوار. وعندما كان يتحدث سارتر مع بيكاسو كان ذلك يدور عادةً في زاوية بعيدة، وكان يبدو شديد الغموض والسرية، فشعرت بأنه كان لا بد أنه يتكلم عن (المقاومة) وعن منشوراتها السرية.”
مراحل عدة تمر أمام أعيننا عبر سطور الكتاب وحواراته المنقولة بدقة. يطبعها التجريب وإعادة التكوين. فيولد فن الخزف بزيارة منطقة تتميز بتربتها، ويدخل الحليب تكوين مادة تلوينية بالصدفة وهكذا … يسكن هاجس الفن حياة مبدع كبيكاسو بفوضى المعاش رغم ما قد يتراءى للبعض في رسمه التكعيبي من انتظام للخطوط.
محترف ل بيكاسو ( من صور الكتاب )
سيرة الفنان وإن عدنا اليها بعد عشرات السنين هي سيرة المبدعين جميعاً، يتمادون بترك الافكار تتفاعل داخلهم ، تتخمر حتى تنفجر، على شكل خزف او ألوان .لا يكتفون بالتمتع بلحظات الانفجار والولادة تلك بل يعيدون النظر إليها بالابتعاد، بالعزلة او بالشراكة مع أشخاص محدودين ، ليهدموا الصور الاولى لنتاجهم ويعيدون بناءها مرة تلو مرة الى أن تخرج من رؤياهم ليسترخوا …ويتركوا للآخرين متعة الإكتشاف.
“أذكر أني ذات مساء وصلت الى مشغل براك، وكان يعمل على لوحة كبيرة، حياة جامدة، تتكون مفرداتها من لفافة تبغ وسبيل وكل العدة التي كان يعتمدها التكعيبيون، داخل شكل بيضاوي.تطلعت اليها ثم رجعت وقلت : آه ياصديقي المسكين، هذا شيء فظيع، إنني أرى سنجاباً في لوحتك. فقال براك: هذا غير ممكن. قلت: نعم، اعرف أنها نوع من الرؤية التي لا تخلو من الوسواس ولكن ما حدث فعلاً هو أنني رأيت سنجاباً.
رجع براك الى الوراء، وتطلع بعناية ويقين كافيين، فرأى، هو ايضاً سنجاباً، لأن ذلك النوع من الرؤية الوسواسية قابل جداً للانتقال”. وتلك كانت واحدة من مئات الحكايات المنقولة على لسان بيكاسو.
بيكاسو في طفولته
أعادتني سيرة بيكاسو ، الى سيرة الرسام السوري العالمي مروان قصاب باشي الذي كان كتابه الصادر عن دار التنوير “أيام الرماد والرمان -مذكرات ويوميات” بمثابة البوح بهذا التمازج في توليد الفن وبألوانه وتشكيلاته من عمق هواجسه وإنشغالاته الفكرية والفلسفية والانسانية، وهموم منطقتنا التي لم تغب عنه كما تشي حواراته مع أحد ابرز اصدقائه
الاديب الراحل عبدالرحمن منيف الذي زينت لوحات مروان معظم أغلفة رواياته. نتشارك معه ليس أسرار سيرته فقط بل هواجسه وقلقه في مسار تكوين اللوحة التي قد تبقى مصدر قلق له على مدى سنوات، يركنها ويعيد العمل عليها ، ثم يركنها ويجدد ألوانها على مدى عشر سنوات ويذكر ،
ان ذلك حصل مرة وإستغرق العمل على إحدى لوحاته سنوات، لإنجاز إستدارة رأس دميته التي تميز لوحاته برأسها الضخم او جسدها المتهاوي.
يورد في مقطع يصعب أن يُنسى انه استفاق بعد حلمه باللوحة التي كان ركنها بعيداً لعدم رضاه عنها، الى أن تنضج في منامه فأعاد تكوينها كما رآها في منامه ، عمل لساعات طويلة على إعادة تشكيلها الى ان أشبع عينيه بالتملي بها واسترخى بمتعة الفائزين بعد جهد وطول إنتظار.
كتاب”حياتي مع بيكاسو” بصفحاته التي تفوق الخمسمئة، لكاتبيه فرنسوا جيلو وكارلتون ليك ، المترجم من الشاعرة ميّ مظفر ،الصادر عن دار الرافدين يتعدى ايضاً سيرة الفنان بمراحلها وتشعباتها للغوص في تاريخ الفن وحرفيته وتطوير تقنيته من خلال سيرة مبدع ، رغم مزايا” التسلط” أو “النزق” ببعض خصاله التي يكشفها الكتاب فإنه يشكل سنداً مقنعاً للقائلين بإستحالة التجديد دون كسر القواعد.
دلال قنديل
ايطاليا
الاعلامية والكاتبة دلال قتديل
قرأت الكتاب على الصادر عن دار المأمون العراقية ولنفس المترجمة الأساتذة مي مظفر على جزئين.