Gaby El Kaai
كابي القاعي شاعر يسكن أزمنة حب وحنين
بقلم الكاتب والناقد : أنطوان يزبك
-×-×-×-×-×-
قدر الشعر أن يزهر وينتج جماليات ومشاعر غير موصوفة وأيضا ، أن يسكن في قلوب الشعراء ويحييها أو يكون الفعل عكسيا ، فينكسر صمت الوجود ، ويدخل الشاعر في انخطاف من حنين وعاطفة ومشاعر، قد تؤدي به أحيانا إلى منعطفات خطرة أو قد ترفعه روحا صافية مخلّدة تحمل شعره إلى مصاف الرؤئ !
كابي القاعي ، كان شعره مرتبطا بالزمن والوقت لديه مثل نوتات الموسيقى يعزفها بالكلمة على أوتار قلبه وأحاسيسه وتفانيه في خدمة الحبيبة وايقاعات قلبها ! وهو افتتن بها عشقا ومودة صافية مؤنسة …
وفي قصائده باللغة المحكية الهادئة ؛ شواهد على تلك العلاقة بين مرور الزمن والمشاعر الأخرى ؛ لأن كابي يركن إلى الوقت ويبيت قربه، الوقت الذي يعذّبه وفي آن يبعثه حيا ، هذا الوقت الذي يفصله عن أم وأب يحبهما حتى العبادة وترسخ صورتهما في أيقونة محفورة في صدره ، إلى جانب أيقونة أخرى قد تكون من ذهب ونحاس تمثل فتاة لا هي في عمر الورد ولا في عمر التفتح والنزق ، بل لديها ما يكفي من السمات والنّفاذ إلى قلب كابي الواسع على مصراعيه ، لكي لا تغادره ولا لحظة وهو حين يلمح طيف امرأة من حلم يحيك لها ثوبا من انفعالاته ، ويمضي يبحث لها عن مأوى من سحب مطريّة منعشة وبريق رعود وعاصفة ، كلها في لوحة فوق قصر منيف حوّله كابي إلى غابة صنوبر كثيفة ترعى فيها الحيوانات الأليفة مثل جنة أرضية .
هذا القصر الأسطوري بناه كابي القاعي صرحا للحب المثالي الذي يبحث عنه في القصيدة والطبيعة و وجه الله الطوباوي ، و يا نيالها تلك المحبوبة المخلوقة من لدن الآلهات عذراوات المروج، التي سوف تسكنه وترتفع في محرابه ..
يقول فكتور هوغو التالي : لا يجب أن يكون للشاعر سوى نموذج واحد إلا وهو الطبيعة ، ومرشد واحد إلا وهو الحقيقة، وعليه تبقى الطبيعة الملاذ الوحيد ، والهدف الأسمى، والكلام في قصائد كابي ، يتناول أيضا مصدر الإلهام ولكن وعلى ما يبدو ان الشاعر القاعي كانت القصيدة ملجأ له منذ نعومة أظفاره، يلجأ إليها حين يشتد عليه الألم وتحاصره التساؤلات ، هي ملاذه حين تغلّبت عليه عاطفته يوما وهو المفرط في الحساسية بيد أنه يتحكم بعاطفته تلك مرغما ، خشية أن يسرق منه أحد عامل الوقت ، وكرامته الغالية عليه، هذا الوقت المجهول الذي يتحدّانا و يبعث فينا شعور الضعف والملل إلى جانب الندم ، هو يحرقنا ونحن نظن اننا نحرقه.
أجل نحن في حرب متواصلة مع الوقت المرادف للموت والزوال والقديس اوغسطينوس قال ذات مرة أنه عجز عن فهم شيئين ؛ الشرّ والوقت .
كذلك اينشتاين أيضا ، حاول أن بطوّع الكوانتوم ، بيد أن الكوانتوم غلبه شرّ غلبة وغادر الحياة كمثل اي واحد من ابناء آدم ، العدّاد لا يتوقف وربما لهذا السبب فضّل كابي القاعي المرور حدّ الوقت عالما اننا كلنا أبناء الزمان وأبناء الصيرورة ولا غالب لنا إلا أنفسنا حين ننطلق في رحلة لمعرفة سرّ الوجود ، ولا غالب للوقت سوى الحبّ وهل من مذاق أعذب من طعم الحبّ النقي العندليبي وفيه كل صور النساء المغويات اللواتي عرفهن الشاعر طوال حياته و واظب على تقليب ذكراهنّ في حنايا القلب على ضعفه و وهنه !
يقول كابي في قصيدة حدّ الوقت :
حدّ الوقت شو مرقِت
قاصد ت طعمو دوق
وضلّيت قرّب عالسكت
تَ دوق طعم الوقت
لقيت الوقت محروق
خدعتو وثواني سرقت
منّو … ت بلكي رقت
ما كنت نِتفة روق
وعيت عا حالي وفِقِت
قديش من عمري حرَقِت
وقت … وانا المحقوق
تاب يعطيني فِرَص
جرّبِت قلّي : “خَلَص”
ما إلك عندي حقوق
الشاعر العميد كابي القاعي
يبدو الوقت هنا مثل سيّاف أو عنصر حارق يحكم على الشاعر ولا يعطيه أي بارقة أمل أو حتى يمنحه دقيقة بعد، لكيما يحقق الحلم أو الهدف المنتظر ..ولكن نقرأ في قصيدة أخرى الأبيات التالية :
نظري ع الأبعد ضارب
ومن واقع عيشي هارب
شو بدّك منّي يا وَيل
حاجي عليي تزيد الكَيل
وفرحي تعادي وتحارب
البكرا بعيوني فرفح
وربيعو عم يضحكلي
حاجي ليلك يترحرح
وجرح ب قلبي يفتحلي
ت صار تلتينو خارب
رح يبقى قلبي نابض
وعا رقبة فرحي قابض
حتى ما يهرب منّو
وكل ما يسألني عنّو
جاوِب من دون ما وارِب
في هذه القصيدة نرى الوقت يمتاز بديناميكية وأمل كبيرين، وتفرج الأبيات عن حيوية رياضية واستعداد إلى الفرح والنهوض كما عند بداية الربيع ، استعداد للبداية من جديد ، انفراج واسع على جبهة الحب والأمل والوقت لم يعد خصما ، بل صار مساعدا رديفا ، هكذا هو كابي القاعي ، في لحظات السواد واليأس الأكثر حدة ينهض وينفض عن كتفيه احمال الألم الشديد والخسارات المتعاقبة ويبدأ حملة جديدة يكون قدّها ولا يندم ابدا على مقدار الطيبة الكبير الذي منحه ، فالحبّ والمحبة لا يضيعان مهما كان الصدّ كبيرا من الآخر ، أو الإساءة مؤلمة، فالمحبة تذهب توا إلى قلب الله على طريقة جبران خليل جبران ، المحبة تحتوينا كلنا مهما كانت التفاصيل صعبة، ومهما بلغ الغدر حدا لا يطاق والقهر محاصرا ،فالغزل يبقى غزلا ممتعا فيه كل رجولة وكل فرح ومنه هذه القصيدة المتميّزة بنبرة رجولة وطاقة و حيويّة :
وبعدني ل حَدّ اليوم ، كلما وقفت عا منبر ب. حِس في. شي. عم يشدني تَ قول غزل…
عا منبري واقف ، بالغزل عم جود
والعمر نفناف ، نازل على راسي
وعالبال ، كلما سنَينو شقع ، بتعود
لحظات فيها العشق ، جَمَّر حواسي
وحلوين كانوا وين ما كنت موجود
يتخانقوا عا دَق. … كاسُن بكاسي
من وقتها بعدو هالقلب مشدود
بحَبْل الهوى ، عا شَطّ الغزل راسي…
هو الشعر القادم من عاطفة ، ام القصيدة القادمة من بعد مجهول وميتافيزيقي ، التي تشكل كل شخصية الشاعر ؟ أسئلة لا تحتسب في جمالية الشعر و نفاذه ، هي القصائد بحدّ ذاتها تقول ما تقوله وتجعل من كابي يعيش عاطفته بلا حدود أو قيود بصريح العبارة من خلال كلماته وافراحه وأحزانه ..
الكاتب والناقد أنطوان يزبك