مقالة الإثنني في ” ميزان الزمان ” الأدبي في بيروت :
برجها الجوزاء.. وطبعها هوائي
دمشق.. أو “دمٌ شَقَّ”؟
بقلم د. بسّام بلاّن
دعوني أعترف لكم أنني لم أكن في يوم من الأيام مجتهداً في مادة الرياضيات. فمنذ أن تعرفت على مادة “الجبر” تعقدت حياتي.. وبالكاد كنت أحصل على الدرجة اللازمة للنجاح. في مقابل هذا “الضعف الحسابي”، كنت شغوفاً بفكفكة حروف المفردات والأسماء.. واعادة تركيبها على طريقتي، بأن أضع الحرف الأول من الاسم في منتصف الكلمة أو آخرها، فأحصل على مفردات جديدة.. كانت تفاجئني وتضحكني.. وأحياناً تقودني للتأمل والبحث.
كنت في الصف الأول الابتدائي، عندما كتب لنا الأستاذ محمود إسم “دمشق” على السبورة، وراح يعلمنا تهجي حروفها.. ويطلب من كل واحد منا إعادة كتابها بالطبشورة مرة أخرى.. ولم تنتهِ الحصة، حتى امتلأت سبورة الفصل بدمشق، بأشكال وطرق كتابة متعددة.
وبينما الأمر كذلك رحتُ أفكك هذه المفردة.. وأعيد تركيبها مرة ثانية. لأكتشف أن دمشق مفردة مؤلفة من كلمتين؛ هما: “دم” و “شق”. ومنذ ذلك الحين أنا على قناعة بذلك.
……….
بعدما كبرت، ولفرط هيامي بدمشق، لم أتوقف عن محاولات تفسيرها. قرأت عنها كل شيء تقريباً، بحوثاً وشعراً ونثراً. عرفت عنها الكثير؛ في تاريخها وبداياتها وتكوينها وسكانها وأسمائها، ومع ذلك ظل راسخاً بذهني أنها مفردتان؛ “دم” و “شق”.
فسرت دمشق فلكياَ لأعرف برجها؛ فعلى طريقة أبي معشر الفلكي الكبير، لم أتوقف كثيراً عند مشكلة عدم معرفتي اسم أمها، فلا بأس أن يكون حواء. وبذلك حصلت على النتيجة التالية:
حاصل جمع حروف اسم دمشق هو: 4+40+300+100= 444.
وحاصل جمع حروف اسم حواء هو: 8+6+1+1= 16. وبجمع حاصلي العددين تكون النتيجة: (460)، ولمعرفة برجها، نفسم هذا الناتج على 12 هو والعدد المتبقي يكون رقم البرج. وبذلك تكون دمشق من برج الجوزاء، وطبعها هوائي.
أهم صفات الجوزاء أنه ذكي ولمّاح وسريع البديهة إلى أقصى درجة، فضلاً عن كونه كثير الحركة ويمكنه توظيف ذكائه وسرعة بديهته في العمل وانجاز الأمور بدقة. كما أنه سريع التعلم ويستفيد من خبراته وخبرات الآخرين رغم عدم اتفاقه مع الأنظمة التعليمية التي تحتم عليه الإلتزام بأشياء تحد من حرية تفكيره وتمنعه من الاستكشاف واكتساب الخبرة. وأنا أعشق هذا البرج وأصحابه ولكنني أخاف منهم.
………..
تعمقت بإسم دمشق من خلال “علم طاقة الحروف”، وكانت النتيجة أن حرف “الدال” يعني اللباقة في التدبير وحسن التصرف. وحرف “الميم” يعني القلب الكبير والصدر الرحب والسعي للأعمال الخيرية الإنسانية، والوسطية. وحرف “الشين” يدل على الحدّة في الطباع والإطلالة بسحر لايُقاوم. أما حرف “القاف”، فيدل على الحظ الجيد.
وقفت على كل هذه الحقائق، وقاربتها مع تاريخ دمشق، وذاكرتها.. ورغم ذلك بقي راسخ في ذهني “دمٌ” -“شق”. وفي الحقيقة دمشق هي كذلك. فالدم الذي سال أو يسيل فيها شقّ أو سيشق دروباً ستصل الى العالم كله، فضلاً عن أنه صَنّف البشر و” شقهم ” بين خيّر وشرير، مؤمن وكافر، قاتل ومقتول…إلخ.
تأملوا دمشق. هي من صنف النساء الرزينات، الواثقات، الخبيرات، اللواتي مرّت عليهن صروف الدهر كلها. ففي جبلها قاسيون، وقعت أول جريمة موصوفة في تاريخ الخلق، عندما قتل قبيل أخاه هابيل. فشهق الجبل مندهشاً من هول ما رأى ولايزال يبكي حتى اللحظة، فيما دماء هابيل لاتزال تسيل لليوم. ومن هذه الجريمة عرف الإنسان ضعفه، فلولا الغراب لما عرف قابيل كيف يدفن أخاه. ومن هذه الجريمة عرف البشر “الغِـيرة”.. كما عرفوا أن البشرية سيأتي عليها يوم تتقاتل فيه على الله والتقرب منه، لأن سبب قتل الأخ لأخيه هو قبول الرب القربان من هابيل وعدم قبوله من قابيل. وبذلك صار لهذه المغارة مكانة دينية كبيرة لدى المسلمين مرتبطة بما ورد في القرآن الكريم من قصة إبني آدم عليه السلام.
وفي المعتقدات الدينية الأخرى لهذه المغارة قصص أخرى؛ فقد قيل أن نبياً أو أربعين نبياً لجؤوا إليها هرباً من ظلم أحد الملوك وما أن داهمهم الخطر في المغارة حتى شقَّ الله الجبل ويسر لهم طريق الخروج من الطرف الأخر فخرجوا تاركين خلفهم روائح المسك والعنبر التي بقيت في الصخر. كما قيل إنه في يوم من الأيام كاد أن يسقط سقف المغارة على أحد الأنبياء، فقام جبريل عليه السلام بوضع كفه على سقفها فمنعه من السقوط، وبقي أثر الكف في السقف لليوم.
وقيل أيضاً إن سبب تسمية المغارة بهذا الاسم “مغارة الدم” هو أن الله سبحانه وتعالى أبقى أثر الدم في الصخر ليكون عبرة للعالمين، ويسمى المكان أيضاً مقام الأربعين أو مغارة الأربعين وقيل أن سبب التسمية هو أن يحيى بن زكريا أقام هو وأمه فيها أربعين عاماً، وأن الحواريين الذين أتوها مع عيسى عليه السلام كانوا أربعين، وقد أنشئ ضمن المسجد المحدث هناك أربعون محراباً.
الديانة المسيحية انطلقت الى العالم من دمشق، عبر بولس الرسول، الذي اتخذ من دماء المسيح المصلوب نبراساً له.
الرسول العربي محمد (ص)، كانت لدمشق عنده مكانة خاصة، وموطئ قدمه على باب غوطتها لايزال شاهداً على أنه شبهها بالجنة. وفي مفردة دمشق ثلاثة أرباع حروف اسم رسول المسلمين (ص)، والربع الأخير منه هو فاتحة اسم شقيقتها حلب.
الدولة الاسلامية انطلقت من دمشق بعد تأسيس الدولة الأموية، التي قامت على أنقاض الدولة الراشدية ودماء ثلاثة من خلفائها الذين قُتلوا غيلة وغدراً.
والسيدة زينب ابنة الامام علي كرم الله وجهه جُلبت أسيرة من الكوفة إلى دمشق، بأمر من يزيد بن معاوية رفقة رأس أخيها الحسين ورؤوس شهداء آخرين. وتوفيت ودُفنت فيها.
نهاية الدولة العباسية كانت من دمشق، وأفول الامبراطورية العثمانية كان من دمشق. ولاتقوم دولة أو تنتهي إلاّ على “دم” يشقُّ طريقاً جديداً ويكتب تاريخاً آخر.
………..
دمشق قلب فاض بدماء العروبة، ويواجه هذا القلب اليوم أكبر تحدٍ وجودي في تاريخه.
…….
ماذا بعد عن “دم” و “شقّ”؟
ثمة الكثير والكثير.. ولكن لا بأس إن ختمنا ببعض مما قاله فيها الراحل نزار قباني:
“كتب الله أن تكوني دمشقاً..
بكِ يبدأ وينتهي التكوينُ”.
د. بسّام بلّان
مقالة جميلة. شكرا د.بسام