يا إلهي
نص مسرحي قصير من فصل واحد
حميد عقبي
نص مسرحي مع تشابكات ومقاطع شعرية للشاعر اليمني الدكتور عبد العزيز المقالح
الشخصيات
الشاعر وهو رجل بالخمسينات ويبدو مرهقا جدا
المرأة، شابة في الثلاثينات
الرجل المعتدي، بالثلاثينات أو أكثر
المنظر :ـ مكان يشبه زاوية من سوق شعبي لمدينة يمنية وقرب المكان ما يشبه مظلة انتظار الحافلة
المشهد يشبه محطة انتظار الحافلة، كأنه في إحدى الشوارع بمدينة يمنية، لكننا لا نعرف أي مدينة. يوجد ما يشبه مظلة انتظار الباص، لكن حالتها مزرية. يوجد ما يشبه الشعارات مثل “تعيش الجمهورية اليمنية” و”تحيا الوحدة”، لكن بعض الحروف مطموسة تمامًا.
بالقرب منها برميل قمامة مقلوب وأشياء تشبه عربات الباعة المتجولين متراكمة بشكل غير منتظم في جوانب الخشبة وبعضها مقلوب. على إحدى العربات قفص دجاج فيه دجاجة وحمامة وأرنب وتبدو هذه الطيور متعبة وحالتها مزرية.
يظهر رجل في الخمسينات من عمره، لكنه يبدو حزينًا ومرهقًا. بيده دفتر صغير وقلم من نوعية الأقلام الرخيصة، كأنه ينتظر الحافلة ويستثمر الوقت في الكتابة، وبجانبه عدد من الكتب القديمة تبدو بدون أغلفة.
يسعل فجأة بقوة لبعض الوقت
بجانبه قنينة مياه معدنية صغيرة، يأخذ منها رشفة بعد رشفة ويحاول السيطرة على سعاله.
يلتفت في عدة اتجاهات ولا يجد مكانًا يجلس فيه، يتأمل المكان ويأخذ وقته في التأمل والسير خطوات يمينًا ثم شمالًا، يقترب أكثر من مقدمة المسرح حيث يجد ورقة عليها مقطع شعري، يمسك الورقة، يبتسم
ثم يقرأ ما فيها:ـ
أيها الأصدقاءُ الأجلاَّءُ
لا تُنصِتوا لِدُعاة الحروبِ
وتُجّارِها الآثمينْ،
أَنصِتوا لاِستغاثاتِ أطفالِكُم
لِنداءِ الأَرامِلِ والأُمَّهاتِ
فقد طَفَحَ الدَّمُ
واحتَرَقت سفنُ الحُبِّ
في يَمنِ الحبِّ
ماتَ الضَّميرُ على أَرضِها
جَفَّ نَهرُ السلامْ.
يردد الثلاثة الأبيات الأخيرة بحرقة :ـ
في يَمنِ الحبِّ
ماتَ الضَّميرُ على أَرضِها
جَفَّ نَهرُ السلامْ.
يتجول في المكان والذي يبدو فوضوياً كأنه زاوية أو ركن من سوق أو حي أصابه الدمار.
يضع الورقة بجانب بعض الكتب بزاوية تحت مظلة انتظار الباص.
هنا تدخل امرأة وتسرع نحوه كأنها تبحث عنه، تصل إليه وتمسك بيده برفق وتجره.
المرأة:ـ
المكان ليس آمنًا، ما كان عليك الخروج… لا أحد يعرف ماذا سيحدث هنا؟
يحاول أن يفلت من يدها وكأنه لا يوافقها
يرد بسخرية:ـ
لا يوجد مكانًا آمنًا في الكون.. حدثت أشياء لم يتصورها العقل.. خرجت للقاء أصدقاء وربما اقتناء كتابًا جديدًا أو شراء عدة للكتابة. أنظري، كل أقلامي أصبحت تكتب بصعوبة.. أتعلمين أن ينفذ الحبر أو لا يجد الشاعر قلمًا أو وسيلة للكتابة، عندها يموت، يندثر.. أتفهمين؟
هي تبدو غير موافقة على ما يقوله، تعيد الإمساك بيده وتتقدم به خطوة، يفلت منها ويخطو بعيدًا عنها، تبدي له
بعض التودد:ـ
سيدي، أرجوك، طلبوا مني رعايتك وإعطائك بعض الأدوية ولم يعطوني أي أقلام ولا أدوات للكتابة.. مهمتي أن تكون بخير.
يقاطعها رافضًا:ـ
كيف سأكون بخير وأنا في الظلمة وبدون مكتبتي وكتبي وأصدقائي والأماكن والأسواق والناس والضحكات والأغاني.
يتجه نحو القفص ويخطو عدة خطوات، تسرع هي بالركض لتقف أمامه لمنعه من لمسها، يستغرب لفعلها.
هو:ـ
ماذا تفعلين؟
يمكننا أن ننقذ ما يمكن إنقاذه.
هي تلتفت يمينًا وشمالًا
ترفع يديها:ـ
أرجوك يا سيدي، لا شيء مضمون هنا.. يمكنك أن تدوس على بقايا لغم أو قذيفة.
ربما هذه العربة مفخخة.. أرجوك من أجل سلامتك وسلامتي أيضًا.
يستغرب رد فعلها:ـ
ألا ترين أنك مبالغة في الخوف؟ ألا ترين هذه الأرواح المحبوسة هنا..تبدو أجسادها نحلت وربما هي تحتاج ولو إلى القليل من الماء. تدفعه برفق ثم تمسك يده وتبعده عن مكان العربة التي عليها القفص.
هي:ـ
أرجوك، سيتمُّ أن يوبخوني ..يجب أن نعود بسرعة.
يخطو عدة خطوات إلى يسار المكان، يحدق إلى الأعلى، ينشد بألم:ـ
جسدي لا تخفْ، ستصعدُ روحي لكي ترى كلَّ ما خبَّأ اللهُ من بهجةٍ من جداولَ رقراقةٍ، وتعودَ إليك على غيمةٍ من غناءِ الحمامْ.
لا أتحمل أبداً رؤية حمامة محبوسة وجائعة، لا أحتمل رؤية أجنحتها مقصوصة وجسدها متسخ، حمامة لا تطير ولا تغني وليس لها عشيق يشتاق إليها وتشتاق إليه.
تقاطعه :ـ
سيدي كل هذا الحزن من أجل حمامة؟ كلامك كأن فيه ألغاز أو بلاغة.. أنا لا أتدخل في البلاغة.. يجب أن نعود قبل أن يكتشفوا غيابك ويصفوني بالمهملة والغبية وصفات لا أفهمها.
يضحك وهو يقترب منها مواسيًا :ـ
أنتِ سجناتي ومسجونة معي.. أعلم أن الحياة ليست سهلة لأي شخص وخاصة لامرأة مثلك.. أظن كل النساء خائفات وحتى الرجال.. ألم يكن هنا الحي يعج بالحياة وركضات الأطفال.
ينظر للبعيد ويتحرك خطوات
ويكمل كلامه :ـ
كانت هناك البيوت بنوافذ زجاجية ملونة والأطفال يطلون منها، يتأملون المارة ويستمعون للغناء والمأذن وزقزقة العصافير وهديل الحمام، كأنهم يستمعون لحكايات الكون وهذيانات الشعراء
يتوقف، لحظات صمت وتأمل، يبتسم ويتحرك وكأنه يرقص، يتوقف
ينشد ويقول :ـ
على النهرِ
تَجْلِسُ أمي
تَخِيْطُ حكاياتهِا للصغار
وتَحْلُمُ في كل عامٍ
بأن يأتيَّ الماءُ كي يملأَ النهرَ،
أسألها:
كيف تدعوه نهراً ولا ماءَ فيهِ؟
تجيب: لقد كان محتشداً بالمياه
تفيض على الضفتين.
ومن مائهٍ العذب تشرب قريتُنا
وقرىً حولنا
وقرىً قبلنا
وقرىً بعدنا
بيد أن القرى اختلفت
وتنازع أبناؤها حول من يملك النهر
سال دمٌ
وجرتْ في الضفاف دموعٌ،
بَكَى النهرُ
أحزنه ما جرى
فتوارى، ولكنه ء قالتِ الأم ء
سوف يعود.
يعيد ترديد مقطع :ـ
بَكَى النهرُ
أحزنه ما جرى
فتوارى، ولكنه ء قالتِ الأم ء
سوف يعود.
تعود هي تقترب ويبدو أنها مرتبكة قليلا:ـ
سيدي، أن تقول الشعر وتنشده كأنك تتنفسه.. لا أفهم كل شيء.. كل ما يهمني سلامتك وألا تتعرض لأي مكروه.. ليس لدي دواؤك لو قدر أن أصبت بأزمة.
يضحك ممازحا:ـ
هل أصبحت هرما لهذه الدرجة.. أتذكر أن مثل هذه الأيام تحتفل الناس بالأعياد الوطنية والأطفال يشترون البيارق الصغيرة ويشعلون شعلات جماعية وينشدون الأهازيج.. ما بال كل شيء صامت وجاف والظلمة بالداخل والخارج.
يصمت للحظات
كأنه يتذكر قصيدة يهمس بها همساً:ـ
يمنٌ واحدٌ..
عشتُ أحملُهُ ء راحلاً ومقيماً ـ
على ساحةِ العينِ..
ماذا يقولونَ؟
صارتْ مُجَزَّأَةَ القلبِ
مكسورةَ الوجهِ،
صارَ اسْمُها في المحافلِ (صنعاءَ) يوماً
ويوماً (عَدَنْ).
لا أصَدِّقُهم!
فَهْيَ واحدةٌ،
كلَّما أثخنَتْ في الترابِ السَّكاكينُ..
أدْمَى الترابُ السَّكاكينَ،
وانْدَمَلَ الجرحُ
واسترجعَ الجسدُ اليمنيُّ الممزَّقُ أبعادَهُ،
شكلَهُ
واستدارتَهُ،
نهضَتْ منْ خرائبِهِ المقفراتِ اليَمَنْ.
يصمت
تركض حوله كالمفجوعة ويزيد ارتباكها وكأنها لا تدري ماذا ستفعل .
تسترجيه بصوت مرتبك مع بعض التلعثم :ـ
أرجوك سيدي، أنا لست سياسية ولا أعرف أو أتدخل في السياسة… حسنًا، أعدك أني سأستقيل من عملي وأبحث عن عمل آخر، ولكن لا تورطني ولا تدفعني لأقسو عليك… لا نعرف ماذا سيحدث إذا انتظرنا، ربما تأتي قذيفة أو تهطل رصاصات طائشة أو ينفجر أي لغم هنا أو هناك.
هو لا يُبالي بكلامها ويسير نحو العربة التي عليها القفص، يقترب ويمسك بالقفص. هي تركض هاربة وتلطم وجهها
ورأسها
وتصرخ محذرة:
يا ربي، استرك واحفظك… يا ناس يا عالم، لِيُنقذنا أحدكم.
تظل تصرخ
وهو مستمر يحاول فك القفص الذي يبدو مربوطًا بشيء. يبدو أنها تأكدت من عدم وجود قنبلة أو قذيفة. تتشجع وتتقدم بخطوات حذرة لتساعده. يبتسم لردة فعلها، لاتزال ملامحها مذعورة.
يستطيعان فك القفص ويحملانه بما فيه إلى وسط مقدمة الخشبة.
هي تسرع بجلب إحدى العربات وتحضرها إلى مكان وقوفه، تسارع وتضع القفص فوقها.
ثم تحاول منعه من فتح القفص:ـ
سيدي، أرجوك، ليس معنا معقم ولا وسائل حماية صحية ولا أقنعة، لنكتفي بمشاهدة هذه المخلوقات المسكينة دون لمسها.
يستغرب من كلامها، يدفعها برفق ويقترب أكثر:
أنتِ لا تنسين مهمتك ووظيفتك كسجانة؟
يجب ألا نقسوا عليها أكثر، يبدو أنها عانت الكثير في سجنها.
تقوم بتحريك العربة مبتعدة
هي تردد:
“أرجوك، لقد طاوعتك يا هذا الجنون ولا يمكنني مطاوعتك أكثر.”
يسرع في خطواته ليكون مقابلا لها ويسألها
هو:
“الحرية.. الحرية، أهي جنون؟
أكان درويش وسعدي يوسف ونزار القباني وأحمد عبدالمعطي حجازي وعدنان الصائغ وسليمان العيسى وغيرهم مجانين؟
أصدقائي وصديقاتي كتبوا عن الحرية والطيور المهاجرة والمطر والفرح والشمس تخرج عارية الصدر وناقة الله تركض بالمراعي
كتبوا عن النيل يفرش الحياة والبهجة ونهري دجلة والفرات يصفق للطير القادم من الجهات الأربع وصديقي عبدالعزيز المقالح يغني لصنعاء واليمن وجزيرة العرب والكون كله.. أكان مجنوناً صديقي.. سمعته ينشد:ـ
لي بيتٌ في الريف
حديقتهُ حقلٌ مترامي الأطراف،
وتحرسه رائحةُ الورد.
إذا ما انتصف الليل
صعدتُ إلى السطح
لكي تتقاسمَ روحي وأنا
أنغامَ نجومٍ حالمةٍ
تذرع وجهَ سماءِ الليل
وتكتب أعذبَ ما
يهفو القلب إليه
من الكلمات.
يصمت للحظات
كأنه يشعر بالارهاق، يحاول أن يجد مكانًا يجلس فيه، يأخذ شهيق وزفير لعدة مرات
ثم يكمل :ـ
أتذكر أيضا من قصيدته بيت في الريف..أمنحيني لحظة.
هي تتحرك بالعربة هو يستمر بالحركة ليكون مقابلها
كأنه يشعر بالارهاق، يحاول أن يجد مكانًا يجلس فيه، يأخذ شهيق وزفير لعدة مرات
ثم يكمل :ـ
أتذكر أيضا من قصيدته بيت في الريف..أمنحيني لحظات اخرى.
هي تتحرك بالعربة هو يستمر بالحركة ليكون مقابلها
هو :ـ
نعم أتذكر يقول ـ
لي بيتٌ في الريف
أنيقٌ وشفيفٌ
تغسله الشمسُ صباحاً
والليلُ مساءً
حين تحاصرني دوامةُ حزني
ويضيق القلب
أفر إليه
لأنفضَ عن روحي
ما أثقلها
من فيروسات المدن الشوهاء.
يردد البيت الأخير عدة مرات
من فيروسات المدن الشوهاء.
ثم يصمت
ويعود يسألها :ـ
ليتكم حبستوني في بيتي الريفي، كان صغيرًا وأنيقًا على تلة وقريبًا من السماء والنجوم والسحب. حرة ترقص وتمازح بعضها البعض، فتضحك الملائكة، ضحكة الملائكة يحسها الأطفال وكبار السن مثلي.
تصر على منعه وتجر العربة بعيدًا، يسعل ولا يقدر على الحركة كأنه أصيب بتشنج، هي تظل تبتعد وتبدو غاضبة دون أن تنتبه لما حدث له.
هي بصوت عالي:ـ
سيدي، أيها الشاعر، أنت تجبرني أن أرفع صوتي وأغضب، سوف أبعد هذه الكائنات، ربما تحمل فيروسات معدية.
هو لا يقدر على الحركة.
يناديها:ـ
أنتِ يا سجانتي اللطيفة.. ربما أصبت بتشنج ولن أقدر على الركض أو الحركة.
تظل متفرجة للحظات كأنها غير مصدقة لما يحدث له، هو يظل متجمدًا ثم تأتي مسرعة تقود العربة، تصل إلى مكانه، تدور حوله بالعربة كأنها مرتبكة ثم تترك العربة، تدور حوله وتمسك بيده
تعتذر:
أعتذر سيدي الشاعر .. أرجوك كن بخير حتى نصل إلى البيت.. كل هذا خطأ مني كان يجب أن أخذك من هنا.
يحاول التماسك ويمسك بيدها محاولًا أن يخطو خطوة واحدة، تساعده، يلتفت حوله كأنه يريد الجلوس والاستراحة، تفهم إشارته وتتحرك تجاه المكان، تجد برميل طلاء متوسط الحجم، تسرع بأخذه إلى المكان، بصعوبة يحاول الجلوس بمساعدتها.
يضحك وهو يطرق برأسه:
“رثى صديقي عالمنا كله وليس فقط نفسه
يصمت للحظات
يسعل
يتحرك خطوة واحدة
ويردد : ـ
سأترك في وطن الحرب
ما أبقت السنوات العجاف
من الجسد المتهالك
أتركه ،
وأطير بروحي إلى عالمٍ
ليس فيه بكاءٌ
على طللِ الوقت ،
أو تتغشّاه حربٌ ضروسٌ
تسوق القرابين
نحو مذابح لا شيء فيها
يباركه الله
لا شيء فيها لخير البشرْ .
يصمتُ للحظات
هي تسرعُ تبحث عن الماءِ، تجد عبوة الماء بجانب الكتب، تحضرها، يأخذ جرعات صغيرات، كأنه يحس ببعض التحسن، يبتسم، يعود للصمت وكأنه يبكي من داخله وأعماقه .
ثم يكمل مقطعًا من قصيدة “يوتوبيا” ـ
أرض “يوتوبيا“
لم تلدها القصائدُ والأمنيات
ولا أبدعتها من الغيب أشواقنا،
هي قائمةٌ منذ بدءِ الوجود
ولكننا لا نراها بأعيننا الكابيات ،
هنا الصبح ما زال فيها طرياً
نقياً شفيفاً كما كان
ساعةَ أن بدأ الكون رحلتهُ،
والسماءُ التي اقتربتْ من أصابعنا
كلَّ ليلٍ توشوش للأرض
تمنحها بعض أسرارها
لا تخاف رقيباً
ولا طلقةً سوف تدركها
من هنا أو هناكْ.
تقترب منه مشفقة عليه.
تهمس له :ـ
سيدي الشاعر، يبدو أنك تحب صديقك هذا الشاعر الذي تردد قصائده. يظهر شعره حزينًا أيضًا.. كنتُ أظن أن الشعراء يكتبون عن النساء ومغامراتهم ويمدحون الكبار ويبيعون الوهم.
يضحك كأنه سمع نكتة
يحاول النهوض وفعلاً ينجح.
يرد عليها:
الشعر هو صوت الفرح والحب والأمل.. صوت الشجر والحجر والحمائم… يا ألهي، شغلني الوجع ونسينا الحمامة.. هيا نحررها ونعتني بها.. ربما فعلاً أحتاج إلى غفوة وأغنية وفنجان قهوة بشرفة بيت صنعاني أو ركضة على عتبة البحر في عدن أو أشم رائحة الطين في المكلا أو أهازيج وديان تهامة.. هاتي الحمامة، لا تكوني قاسية.
هي تبتسم وتطيع أمره، تخطو خطوات وتعيد العربة لمكانها، يخطو خطوات بفرح، يشير إليها بالماء، تفهم قصده، تأخذ القنينة، تفتح القفص وتضع بعض الماء يكون متهلل الوجه
يهتف :ـ
يا إلهي
لم يعدْ ثمَّةَ لغزٌ،
وحدَهُ الإنسانُ لغزُ الأرضِ
يبدو غامضاً سهلاً
وسهلاً غامضاً
كالوحشِ أحياناً
وأحياناً ملاكْ.
يصمت
يضحك ويهمس :ـ
يبدون كلهم أطفالا ..كأني أشعر بفرحهم الآن..من فعل بهم وبنا كل هذا العبث.
يمد يديه ويأخذ الحمامة، والتي تبدو بحالة بائسة، وهي تأخذ الأرنب. تتشجع وتمسح على جسده ثم تأخذ الدجاجة، تخطو عدة خطوات بينما هو شاردٌ يحتضن الحمامة.
هي:ـ
سيدي، أنت محق.. تبدو حالتهم مزرية وخائفون ربما مثلنا والكثير من الناس.. كيف جاءت الحرب ومتى ستنتهي؟ لا أحد يعلم.
يخطو خطوات عدة وهو يرفع الحمامة ثم يعيدها لصدره بلطف
ويرد عليها:ـ
تولَدُ الحربُ
منَ الأسئلةِ الخائبةِ الكبرى
ومنْ خوفٍ يحزُّ الرُّوحَ في مقصلةِ الحقدِ،
ومنْ شوقٍ إلى الموتِ
وأطماعٍ بأرضٍ
وَطِئَتْها قدمُ الشيطانِ أزماناً
وكانتْ وطناً للندمِ العالقِ
في نارِ البشرْ.
يصمت
ثم يشير إليها :ـ
لنغادر في سلام ونسرع نُطعم هؤلاء الأطفال.
توافقه وتقترب منه يستعدان لأخذ بقية الكتب والمغادرة.
فقط تصحيح أي خطا املائي أو نحوي دون أي تغيرات
في لحظة خطواتهم للمغادرة يسمعان صوتا غريبا ومن ثم تقترب منهما على الأرضية لعبة طائرة حربية
تصدر صوت مفزعا
ثم يظهر رجل وبيده كرة قدم يضرب بها الأرض وبيد آخرى جهاز تحكم للظائرة ويكون على خصره حزاما وعليه مسدس يستوقفهما
ويصرخ :ـ
أنتما فين رايحين..أن وصلت الملعب ولازم تلعبوا معي..أنا ما أحب العنف لكن ما أقدر أقول لكم.. لو أستخدمت المسدس ممكن رصاصة تروح هنا ولا هناك وسأكون بريء من دمكم.
تحاول المرأة السيطرة على خوفها
وتحاول تفهم منه ما يريد :ـ
أنت يا رجل..الرجل الشهم ما يعترض طريق رجل كبير بالسن وامرأة ويهددهم..ما نحمل فلوس
يضحك الرجل ويوقف الطائرة ويضع جهاز التحكم جانبا.
يضرب بالكرة على الأرضية ويستعرض بها
ثم يرد ساخرا :ـ
لا أنا حرامي ولا نهاب ولا قاطع طريق قلت لكم ـ نتسلي ونلعب مع بعض..الدنيا صبح وهواء منعش وما في ناس والمثل يقول جنة بلا ناس ما تنداس.
يقاطعها الشاعر متسألا :ـ
قلت أننا في الصبح الباكر..لكن تبدو إشراقة الشمس حزينة كأنها مثقلة بالهموم أو مشفقة على ما يحدث لنا.
يضحك الرجل ويقترب من المرأة فيزيد خوفها :ـ
يا سيدي أنت رجل تبدو كأنك عجوزًا وأنا لا أفهم إيش قلت.. الكلام النحوي وسمعتكم تحكوا عن الشعر..أنا رأسب ثالث اعدادي أربع مرات وفي كل المواد قلت خلاص أروح نلعب كرة قدم وأصبح نجم وفلوس ورحلات وإلى الآن ما دخل جيبي نص ريال..يلزمني نتدرب ونحسن مستواي والأحسن ما أتعصب..بعدين وأحد رياضي مثلي محتاج لتغذية خلاص الأرنب للغداء والدجاجة للعشاء وأنتم يهناكم هذه الحمامة..أنتم شايفين قسمتي عدل..أنا ما أقبل الظلم.
يصرخ فيهم يجبرهم على ترك الكتب ويتقدم ويأخذ الدجاجة والأرنب..ينظر إليه الشاعر
ويخاطبه:ـ
البشر هم البشر، سواء ولدوا في القاهرة أو في باريس، في لندن أو في برلين، لكن الظروف هي التي تتحكم في رغباتهم.
نعم.. ما أسهل الظلم، وما أصعب العدل، وما أسهل الشر، وما أصعب الخير. هكذا تقول قوانين الحياة.
يصمت أترى لهوك العبثي وأن ترعبنا عدلا ؟
يذهب الرجل ويعيد الدجاجة والأرنب بالقفص ثم يغلق القفص
ثم يرد :ـ
الكل يلعب بنا ويشوتوا بنا يمين ويسار وشرق وغرب..أنت تفهم الشعر يوجد شاعر منكم قال ـ إنما العاجزمن لا يستبد…صح
أنا لا يخلصني أخذ هذه الحمامة منك..يظهر لي أنك تحبها كثير.
تتقدم المرأة مظهرة شجاعة :ـ
شوف يا أبن الناس..نحن كنا سنغادر من هنا ولا ندري ماذا سيحصل؟
نحن جميعا في أيام كرب وحرب وموت لسلامتك وسلامتنا خلاص خذ الأرنب والدجاجة وكل واحد يروح لحال سبيله ولا تمس الشاعر.
يضحك الرجل.
يأخذ الكرة ويضرب بها الأرض وكأنه يخيفها، يقترب منها ويتحرك بالخشبة كأنه يرقص ويغني أغنية راب.
(الأغنية خليط من لهجات ولهجات يمنية)
يفرقهما عن بعض ويصبح بالوسط، يتحدث بغرور مهددًا
وهو يرفع مسدسه :ـ
شوفوا..أنت وهي..أنتي وهو ..المسدس مشحون ومليان وحزامي متروس رصاص، والرصاص أرخص من الخبز وفي كل مكان..الخبز دايما معدوم..يعني راح تلعبوا معي مجاملة لي أو خوف أو حتى بطيبة نية ..تعرفوا بطلنا ما أحد يعرف أحيانا مين مات وكيف؟ مين قتل مين؟ الدنيا سايبة وفوضى
على فكرة قلبي طيب مع الطيبين والطيبات فهمتوني؟
تعود المرأة بجوار الشاعر كأنها تحميه وتتحدث للرجل العنيف:ـ
أخينا سلامات..سلامات تحكي جد أم ترعبنا وإيش الشر من الصبح قلت الأماكن هنا خطرة، خطر خطر وموت، تفهم موت..نروح لبيوتنا أحسن بسلامة الله وحلال عليك الدجاجة غداك والأرنب عشاك.
نرى الشاعر غير خائف حيث يسير خطوات، رغم أن الرجل يصوب المسدس نحوه.
الشاعر :ـ
يا إلهي استوحشَتْ روحي
وهذا زمنُ الحربِ استوى
لم يُطلقوا النارَ على رأسي
ولكنّ العيونَ الفارغاتِ احتشدَتْ حولي،
وحطَّ البدوُ في الضّاحيةِ الأخرى
منَ البيتِ،
وجاءوا يستظلُّونَ
ويَمْحُونَ تضاريسَ الكتاباتِ
على لوحٍ منَ المرمرِ..
كانوا يسرقونَ الكعبةَ الغرّاءَ
ثوبَ العيدِ..
يا أللهُ
منْ أينَ أتى هذا الجرادُ المرُّ
والحشدُ الذي يعدو إلى الخلفِ
يقود العِفَّةَ الكُبرى إلى المبْغَى،
ولا يدري.
له أُذْنٌ منَ الطَّينِ
وقلبٌ منْ حجرْ.
يتوقف الرجل عن اللعب وكأنه تأثربالمقطع الشعري، ثم يهز رأسه ويعود يركض بالكرة يستعرض مهارته، ليعود إلى الشاعر
ويخاطبه :ـ
تستحق تصفيق يا عم أقصد يا جد..أكيد أنت جد وجد الجدود..عفوًا لا أسخر منك معاذ الله نحن قبايل والقبيلي قبيلي لو لبس بنطلون أو لعب كورة ..كلامك على عيني ورأسي شوفوا لو سجلتم عليه هدف ..أروح لي بعد حالي ولكم السلام وعليكم السلام..حاجة سهلة ليش تكبرونها وتصغرونها قلت لكم من البداية تعالوا نلعب في زمن الحرب مثل حب في زمن الحرب أو حب في زمن الطاعون.
يضحك الشاعر ويبدو أنه أقتنع بالفكرة
يصحح له الأسم :ـ
تقصد الحب في زمن الكوليرا للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز وهذه الرواية يكون الموت البطل والبداية وتنتهي بالبحث إلى مسارات الأبدية، وبين دور الموت وهدف الخلود، الكثير من التفاصيل تتفاعل وتتمازج مثل الحب والحرب والوباء والعادات والتقاليد.
يصمت
ثم يكمل وهو يشير إلى المرأة:ـ
فكرته بديعة قد نموت بعد لحظات وربما ترتفع أرواحنا إلى أعلى..لنلعب..ما الشر في ذلك أرى الأطفال يعودون إلى اللعب بعد كل غارة وجنازة.
يكون الرجل فرحا ويسرع بترتيب الخشبة وما يوجد عليها ليحولها لملعب كرة قدم بالشارع.
يتسم الموقف بالتغيير ويتحرك الرجل العجوز لمساعدة الرجل في إعداد الملعب وتكون الكرة بمقدمة وسط الخشبة، تظل المرأة غير فاهمة وهي تتابع ما يحدث ثم تلتحق بهم .
يستخدمون مظلة محطة الباص كأنها مرمى توضع على يسار الخشبة التي كانت تسودها الفوضى.
يحدث تحول نوعي بزوال التوتر وتسود أجواء الفرح والكوميديا، يضع الرجل القفص بمقدمة الخشبة وقد نسمع صوت الدجاجة.
يبدأ اللعب بالتسخين قليلا وكأن الأجساد تظهر أكثر تحررا ويُحدث الرجل بعض القفشات الكوميدية ونرى الشاعرجاد ومتحمس باللعب.
ثم يقف الرجل كحارس مرمى وعلى بعد مسافة في اليمين تكون الكرة بركلة يستعيد تسديدها الشاعر مع هتاف من المرأة ويسدد الشاعر ثم تأخذ المرأة الكرة وتسجل هدف، تركض وتزغرد ويكون الشاعر فرحا والحمامة ما تزال بحضنه.
يتبادلون الادوار فتذهب المرأة كحارس وتصد ركلة الرجل الذي يضحك ويمرح وهكذا يلعبون بعض الوقت بسعادة وفرح كأنهم نسوا الحرب والمخاطر، فجأة تتغير الإضاء حيث تظلم الخشبة ثم يعود الضوء، نرى لعبة الطائرة الحربية تتحرك مستولية على الخشبة بينما يندفع الثلاثة كأنهم يبحثون عن ملجأ، تكون ومضات ببعض الجوانب وعتمة وحركة مستمرة وضجيج الطائرة اللعبة، ثم نرى أشبه بالطوب الحجر يتناثر من الجوانب وأكياس قمامة مختلفة الأحجام تسقط من الأعلى لتعم الفوضى المكان بينما يتكوم الثلاثة وسط المسرح، تمتلأ الخشبة بهذه الأكياس، عتمة تامة لكن الطائرة الحربية اللعبة تظل تصدر الضوء والضجيج بمقدمة الخشبة.
النهاية
تنويه
هذا النص ضمن سبعة نصوص ضمن تجربة تشابكات الشعر والمسرح وهنا لا يعني معالجة مسرحية للنص الشعري ولا أن العمل مستوحى كاملا من النص الشعري، ثمة تشابكات مهمة تحدث هنا ويظل النص الشعري قويا كنص بما فيه من صور وخيالات وبالتأكيد سيلعب الممثل دورًا مهمًا في التعامل مع النص وكذلك يفتح نوافذ تخيلية بالنسبة للمخرج أي كل شيء قابل أن يتحرك أكثر وأن تتضافر اللغة المسرحية للمزيد من الأفعال والحركة وقد لا تصل كل العناصر بمجرد قراءة هذا النص كنص مكتوب وتلقيه عبر القراءة ولكن هذا لا يمنع أن تكون هنا متعة تفتح أبواب التخييل والتذوق.